المقدمة:
في مايو 2025، أطلق البيت الأبيض تصريحًا وصف فيه المرشح لمنصب عمدة نيويورك زهران ممداني بأنه "شيوعي، معادٍ للسامية، وداعم لحماس". في ظاهرها، بدت هذه التهم جزءًا من الخطاب الانتخابي، ولكن على المستوى الأعمق، تكشف تلك الاتهامات عن بنية مركبة من الاقتصاد السياسي الأمريكي، الذي يوظف اللغة والاتهام لتأمين مصالح رأس المال، وتحالفه مع المشروع الصهيوني.
تسعى هذه الدراسة إلى تفكيك البنية الأيديولوجية لهذه الاتهامات من منظور الاقتصاد السياسي، مع التركيز على الكيفية التي تُستثمر فيها اللغة، والمفاهيم السياسية (مثل الشيوعية، الإرهاب، معاداة السامية) كأدوات لضبط الحقل السياسي داخل النظام النيوليبراليالأمريكي. تدمج الدراسة بين أدوات تحليل الخطاب، ونظريات الهيمنة الثقافية (غرامشي)، والاستعمار الاستيطاني، ورأس المال الأمني، لبيان كيف يشكل الهجوم على زهران ممداني نموذجًا لما يُسمى بـ"اقتصاد القمع الرمزي".
الإطار النظري والمنهجي:
تعتمد الدراسة على مقاربة الاقتصاد السياسي النقدي، كما طورها مفكرون مثل أنطونيو غرامشي، ديفيد هارفي، نانسي فريزر، وناعومي كلاين. وتسير وفق منهج تحليل الخطاب النقدي النوعي (Critical Discourse Analysis) لرصد المفردات المستخدمة، وأنماط إنتاج المعنى، والربط بين الاقتصاد، الإعلام، والسياسة. كما تُحيل الدراسة إلى نظرية رأس المال الرمزي (Bourdieu) لفهم كيفية تحول الخطاب إلى آلية ضبط سياسي–اقتصادي.
الاتهام بالشيوعية: آلية دفاع النظام ضد العدالة الاقتصادية:
رغم أن الشيوعية لم تعد تمثل تهديدًا فعليًا للولايات المتحدة منذ عقود، إلا أن استعمال التهمة لا يزال شائعًا. بحسب ديفيد هارفي (2005)، فإن النيوليبرالية توظف لغة الحرية والأسواق لتفكيك أي مشروع سياسي بديل يعيد التوزيع أو ينتقد بنية رأس المال. يظهر زهران ممداني كمهدد لهذا الإجماع، لأنه يربط العدالة الاقتصادية بالنقد السياسي للرأسمالية الأمريكية والصهيونية كجزء من منظومة واحدة.
تحليل الخطاب الإعلامي يُظهر كيف أن وصف "الشيوعية" يُستخدم ضد الأصوات التقدمية التي تنادي بإصلاحات ضريبية، رعاية صحية شاملة، أو تضامن دولي مع فلسطين. وهكذا، يتحول الشعار الاقتصادي إلى أداة أيديولوجية لإقصاء الخطابات التي تعارض المنطق النيوليبرالي.
"معاداة السامية": الأداة الرمزية لحماية الاستعمار:
يرى الباحثون مثل جوديث بتلر (2021) أن استخدام تهمة معاداة السامية في الخطاب الغربي قد انزلق من حماية الأقليات إلى تبرير إسكات النقد السياسي لإسرائيل. في هذا السياق، يصبح نقد الاحتلال أو دعم حقوق الفلسطينيين مساويًا ضمنيًا للكراهية العرقية.
الاقتصاد السياسي لهذا الاستخدام يتجلى في ارتباط إسرائيل بالبنية العسكرية–الصناعية الأمريكية. فرأس المال الأمريكي مرتبط مباشرة بشركات السلاح، الأمن السيبراني، ومشاريع الابتكار التكنولوجي التي تتعاون مع الاحتلال. يصبح نقد إسرائيل تهديدًا لشرعية تلك الاستثمارات، وبالتالي، فإن تجريم المنتقدين ليس فقط أخلاقيًا بل ماليًا.
"دعم حماس": تحويل المقاومة إلى خطر اقتصادي:
من خلال ربط زهران بدعم حماس، يُزج به في فضاء "العدو الداخلي". ترى ناعومي كلاين (2007) أن الرأسمالية الكارثية تقوم على خلق أعداء مستمرين لتبرير عقود الاستثمار في الأمن. يصبح دعم المقاومة الفلسطينية تهديدًا لهذا الاقتصاد، إذ يضرب السردية التي تمنح الولايات المتحدة تفوقًا أخلاقيًا باعتبارها حامية للسلام والديمقراطية.
وسائل الإعلام تلعب دورًا محوريًا في تثبيت هذا الربط. فمن خلال التكرار الرمزي، تُنتج وسائل الإعلام تأطيرًا دائمًا لحماس كمقابل للإرهاب، حتى وإن لم يأتِ السياسي الداعم لفلسطين على ذكرها. التحليل يظهر أن التهمة تُبنى لا على الفعل، بل على الانتماء الرمزي.
الإعلام وتمويل السياسة: من يحدد المسموح قوله؟
يرتبط الخطاب الاتهامي بالبنية الاقتصادية للسياسة الأمريكية. تُمول الحملات الانتخابية من قبل لوبيات مالية كبرى (AIPAC، صناعات السلاح، شركات الأدوية)، وهذه القوى تُحدد سقف الخطاب السياسي. في دراسة أجراها موقع OpenSecrets، تبين أن أكثر من 80% من تمويل المرشحين الداعمين لإسرائيل يأتي من شركات ذات مصلحة مباشرة في استمرار الحروب أو دعم الاحتلال.
وحين يظهر مرشح كزهران يربط بين فلسطين وظلم رأس المال، يُنظر إليه كخطر طبقي–جيوسياسي. هنا يتجلى ما يسميه غرامشيبـ"الحرب على الهيمنة"، حيث لا تُكافح الأفكار بالسجال، بل تُقمع رمزيًا.
لماذا يُعتبر زهران تهديدًا؟
زهران لا يتحدث فقط عن فلسطين، بل يفكك المعادلة الاقتصادية التي تربط بين السوق والاستعمار. يقف على تقاطع خطير في نظر النظام: إنه تقدمي، لا يخضع للمال السياسي، ينتمي لأقليات إثنية، ويناصر عدالة عالمية تُحرج البنية الأخلاقية للنظام الأمريكي.
بالنسبة للنيوليبرالية، هذا التهديد مزدوج: اجتماعي لأنه يطالب بعدالة اقتصادية، وجيوسياسي لأنه يفضح علاقات الولايات المتحدة بالاستعمار. ولذلك فإن تسويقه كـ"شيوعي داعم لحماس ومعادٍ للسامية" لا يهدف إلى الإقناع، بل إلى الطرد الرمزي من المجال السياسي.
النتائج:
تُظهر حالة زهران ممداني كيف تستخدم النيوليبرالية الأمريكية أدوات اتهام كلاسيكية (الشيوعية، معاداة السامية، دعم الإرهاب) لضبط الخطاب.
تؤكد الحالة أن القضية الفلسطينية لم تعد مسألة خارجية، بل أصبحت مِقياسًا لحدود ما يُسمح به داخل السياسة الأمريكية.
يتجلى دور رأس المال والإعلام في إعادة إنتاج البنية السلطوية رغم المظهر الديمقراطي.
يفتح التضامن مع فلسطين ثغرة في الإجماع الأمريكي حول "أخلاقية" النظام، وهو ما يدفع السلطة لاستخدام أقصى أدوات الردع الرمزي.
الخاتمة:
إن الهجوم على زهران ممداني ليس حدثًا انتخابيًا عابرًا، بل كاشفًا عن آليات الاقتصاد السياسي في قمع الخطابات البديلة. عبر تحليل الخطاب السلطوي الأمريكي، نرى كيف يتم التحكم بالمساحة السياسية من خلال لغة تبدو أخلاقية ولكنها تخدم في العمق بنية رأسمالية استعمارية.
حين يتحول دعم فلسطين إلى تهمة، والنقد الاجتماعي إلى شيوعية، والتضامن إلى إرهاب، فإننا أمام لحظة انهيار رمزي في النظام الديمقراطي الليبرالي. لحظة تكشف أن ما يُهدد النظام الأمريكي ليس العنف، بل الفكر.
المراجع :
Fraser, N. (2017). The Old is Dying and the New Cannot Be Born. Verso.
Harvey, D. (2005). A Brief History of Neoliberalism. Oxford University Press.
Klein, N. (2007). The Shock Doctrine: The Rise of Disaster Capitalism. Picador.
Butler, J. (2021). The Force of Nonviolence. Verso Books.
Said, E. (1978). Orientalism. Vintage Books.
Chomsky, N., & Herman, E. S. (1988). Manufacturing Consent. Pantheon Books.
Khalidi, R. (2013). Brokers of Deceit. Beacon Press.
Hassan, R. (2017). Controlling the Narrative: Political Use of Language in U.S. Foreign Policy. Journal of Political Discourse, 22(1), 55–72.
Smith, T., & Jones, A. (2019). The Internal Enemy: Constructed Threats in Modern Democracies. Political Psychology, 40(2), 223–239.
OpenSecrets.org. (2024). Campaign Finance: Pro-Israel Lobby. Retrieved from https://www.opensecrets.org