عاد ترامب إلى البيت الأبيض بعد فوزه في انتخابات 2024، ليصبح أول رئيس مهزوم في ولايته الأولى يعود للسلطة منذ 130 عاماً، معتمداً على أغلبية جمهورية في الكونغرس لتغيير سياسات الحزب التقليدية، مستبدلاً إياها برؤية شعبوية تهدف إلى ترسيخ "الترامبية" كإطار فكري جديد للحزب.
تُعد "الترامبية" مصطلحاً سياسياً واجتماعياً ارتبط بفترة حكم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والذي تميز بأسلوب قيادي غير تقليدي وسياسات خارجية مثيرة للجدل، أحد أبرز القضايا التي ما زالت تثير نقاشاً واسعاً خلال فترة حكمه هي القضية الفلسطينية، حيث اتخذ ترامب مواقف حادة وغير مسبوقة أثرت على مسار الصراع العربي الإسرائيلي، في هذه الورقة سنستعرض مفهوم "الترامبية"، وسياسات ترامب تجاه القضية الفلسطينية.
ما هي الترامبية؟
"الترامبية" (Trumpism) هي مصطلح ناشئ يُستخدم لوصف الأيديولوجية السياسية وأسلوب القيادة الذي يمثله دونالد ترامب، والذي يجمع بين الشعبوية، القومية الاقتصادية، الانعزالية النسبية، والخطاب التقسيمي، وتُعتبر "الترامبية" ظاهرة سياسية واجتماعية تعكس تحولات عميقة في السياسة الأمريكية، خاصة بين الطبقة العاملة البيضاء والمحافظين.
لماذا ظهرت الترامبية؟
ظهرت "الترامبية" كرد فعل على تحولات اقتصادية واجتماعية وسياسية عميقة في الولايات المتحدة، خاصة بعد الأزمة المالية العالمية (2008) وتراكم الإحباط بين فئات واسعة من الأمريكيين بسبب الغضب من النخب السياسية، حيث شعرت الطبقة العاملة بالإهمال من قبل الحزبين الرئيسيين (الديمقراطي والجمهوري)، خاصة بعد سياسات العولمة التي أدت إلى فقدان الوظائف في الصناعات التقليدية، وأثار زيادة التنوع العرقي والديني في الولايات المتحدة مخاوف بعض الجماعات البيضاء من فقدان الهوية الأمريكية التقليدية، الأمر الذي ساهم في تهيئة الظروف للترامبية.
وبسبب انخفاض ثقة الأمريكيين في المؤسسات الحكومية والإعلامية، أصبح الخطاب الشعبوي لترامب جذاباً، خصوصاً مع استخدام ترامب لوسائل التواصل الاجتماعي (خاصة تويتر) للتواصل المباشر مع الجماهير، متجاوزاً الإعلام التقليدي الذي اعتبره منحازاً.
أبرز ملامح "الترامبية":
"أمريكا أولاً" (America First): وتعني سياسة خارجية تركز على المصالح الأمريكية المباشرة، مع تقليل الاعتماد على التحالفات الدولية (مثل الناتو) أو المنظمات متعددة الأطراف (مثل الأمم المتحدة)، والسعي لتعزيز الهيمنة الأمريكية عبر مزج سياسات تاريخية مثل "عقيدة مونرو" (الهيمنة على الأمريكيتين) و"عقيدة ريغان" (السلام عبر القوة)، مع إضافة نهج شعبوي يركز على الحد من التدخل الخارجي وبناء "القبة الحديدية" للأمن الداخلي.
الشعبوية (Populism): إذ تتسم بخطاب يعادي النخب السياسية والاقتصادية، ويدعي تمثيل "الشعب الحقيقي"، ويتمثل ذلك في: وصف ترامب للإعلام بـ"عدو الشعب" وللسياسيين بـ"المستنقع"، إقالة المسؤولين غير الموالين (مثل جون بولتون وأنتوني فاوتشي) وتعيين شخصيات موثوقة (كإيلون ماسك) لتبسيط البيروقراطية وتسهيل صنع القرار .
القومية الاقتصادية (Economic Nationalism): تنفيذ سياسات حمائية تهدف إلى حماية الصناعات الأمريكية عبر فرض رسوم جمركية وتقييد الواردات، مثل الحرب التجارية مع الصين وفرض رسوم على الصلب والألمنيوم، وتعتمد "الترامبية" على استخدام القوة الاقتصادية كوسيلة للضغط على الدول الأخرى، سواء عبر فرض العقوبات أو التفاوض على اتفاقيات تجارية تخدم المصالح الأمريكية بشكل مباشر، وتعمل على تعزيز التكنولوجيا والابتكار، وتسعى إلى تعزيز التفوق التكنولوجي الأمريكي عبر دعم الشركات المحلية (مثل سبيس إكس وتيسلا) وخلق فجوة تكنولوجية بين الولايات المتحدة ومنافسيها الدوليين.
الخطاب التقسيمي (Divisive Rhetoric): من خلال استخدام لغة تُعمق الانقسامات الاجتماعية والسياسية (مثل الهجرة غير الشرعية أو "العنصرية النظامية")، مثل وصف المهاجرين المكسيكيين بـ"المجرمين والمغتصبين". بهدف إعادة تعريف الهوية الأمريكية، من خلال تعزيز الهوية الوطنية عبر سياسات تقليدية مثل الحد من الهجرة غير الشرعية وتعزيز القيم المحافظة، مع التركيز على حماية الثقافة الأمريكية من التأثيرات الخارجية.
الانعزالية النسبية (Relative Isolationism): وتتعلق بتقليل التدخل العسكري الأمريكي في الخارج، وتعزيز القدرات العسكرية مثل تحديث الأسلحة النووية، وبناء تحالفات انتقائية بدلاً من الاعتماد الكلي على القواعد الخارجية أو المنظمات متعددة الأطراف مثل الناتو، مع التركيز على بناء القوة الداخلية والتركيز على الأمن الداخلي من خلال تعزيز سياسات أمنية صارمة داخل الولايات المتحدة، وتعزيز الأمن السيبراني لمواجهة التهديدات الداخلية والخارجية.
تحليل السمات شخصية لترامب:
من وجهة نظر علمية (خاصة في علم النفس السياسي وعلم الشخصية)، يمكن تحليل السمات الشخصية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب بناءً على نماذج مثل "السمات الخمس الكبرى" (Big Five)، و"الثالوث المظلم" (Dark Triad)، بالإضافة إلى ملاحظات سلوكية من فترة رئاسته الأولى (2017–2021) وخطاباته العامة، كما يلي:
أ. النرجسية العالية (High Narcissism): حيث التركيز المتكرر على الإنجازات الذاتية ("أعظم رئيس في التاريخ")، ويكون حساساً للنقد وردود فعله تكون عدوانية تجاه المعارضين، كما أنه يستخدم لغة تعكس التفرد "أنا وحدي أستطيع حل هذا".
تدفع النرجسية ترامب لتبني سياسات تهدف إلى تعزيز إرثه الشخصي (مثل مشاريع البنية التحتية الضخمة باسمه)، حتى لو كانت مخالفة لاستشارات الخبراء، ويكون أكثر ميلاً إلى تحدي المؤسسات التقليدية (مثل الإعلام أو القضاء) لتعزيز صورة "البطل المنقذ".
ب. الميل إلى المخاطرة والاندفاعية (High Risk-Taking & Impulsivity): مما يدفعه لتبني سياسات غير تقليدية (مثل المواجهة التجارية مع الصين)، واتخاذ قرارات مفاجئة (مثل إقالة مسؤولين دون سابق إنذار)، الأمر الذي يؤدي إلى سياسات خارجية متقلبة، لكنه أيضاً يخلق حالة من "الترهيب" كاستراتيجية تفاوض (مثل التهديد بفرض رسوم جمركية).
ج. البراغماتية الانتقالية (Transactional Pragmatism): حيث يتعامل مع العلاقات الدولية باعتبارها "صفقات" (Deals) قابلة للتفاوض (مثل اتفاقيات التجارة أو التحالفات العسكرية) الأمر الذي يؤدي لتفضيل ترامب الحلول السريعة على الرؤى الاستراتيجية طويلة المدى.
د. الثرثرة والخطاب التقسيمي (Grandiosity & Divisive Rhetoric)، حيث يستخدم لغة بسيطة ومباشرة تتوجه إلى القاعدة الشعبية مثل: "أمريكا أولاً"، لكن ذلك يؤدي إلى تعميق الانقسامات الاجتماعية مثل (خطابات ضد المهاجرين أو المعارضين السياسيين)، لكن ذلك يؤدي لتعبئة المؤيدين عبر خلق "عدو مشترك" مثل (الإعلام أو الديمقراطيين)، مما يعزز الولاء الشخصي له على حساب الوحدة الوطنية.
موقف ترامب من القضية الفلسطينية
من خلال فترة رئاسته (2017–2021) وتصريحاته اللاحقة، يُعتبر موقف دونالد ترامب من القضية الفلسطينية أكثر انحيازاً لكيان الاحتلال الإسرائيلي مقارنة بمعظم الرؤساء الأمريكيين السابقين، وهذه أبرز ملامح آرائه ومواقفه، مع تحليل لسياقها:
1. السياسات الرئيسية التي انتهجها:
- الاعتراف بالقدس عاصمة لكيان الاحتلال الإسرائيلي: حيث نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس عام 2018، مُخالفاً التوافق الدولي الذي يعتبر وضع القدس جزءاً من مفاوضات الحل النهائي، واصفاً هذه الخطوة بأنها "خطوة نحو السلام"!.
- صفقة القرن (السلام من أجل الازدهار): قدم عام 2020 خطة تُعطي كيان الاحتلال السيطرة على معظم المستوطنات والقدس، وتُقيم دولة فلسطينية محدودة السيادة في مناطق معزولة، حيث رفضتها السلطة الفلسطينية لعدم مشاركتها في صياغتها واعتمادها على وقائع أُحادية (مثل التوسع الاستيطاني).
- التطبيع بين كيان الاحتلال الإسرائيلي والدول العربية: فقد رعى "اتفاقيات أبراهام" (2020) بين كيان الاحتلال والإمارات والبحرين، والتي اعتبرها ترامب انتصاراً دبلوماسياً، لكنها تجاهلت المطالب الفلسطينية الأساسية.
- قطع المساعدات عن الفلسطينيين: إذ أوقف تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين (UNRWA) وبرامج أخرى، معتبراً أنها "تُعزز الإرهاب".
2. الخطاب السياسي والأسس الفكرية:
- النظرة التبادلية (الصفقة): يعتبر ترامب القضية الفلسطينية "صفقة اقتصادية" قابلة للحل عبر مشاريع استثمارية، بدلاً من التركيز على الحقوق السياسية.
- التشكيك في شرعية المطالب الفلسطينية: اتهم الفلسطينيين بـ"عدم الرغبة الحقيقية في السلام"، ووصف رفضهم لصفقة القرن بأنه "خطأ تاريخي".
- التحالف الوثيق مع نتنياهو: حيث دعم سياسات الحكومة كيان الاحتلال اليمينية بشكل غير مسبوق، مثل الاعتراف بضم الجولان والمستوطنات.
3. السياق النفسي والسياسي لمواقفه:
- الرغبة في إرث تاريخي: سعى ترامب لتسجيل اسمه كـ"صانع سلام" عبر حل الصراع بطريقته، مستغلاً علاقته مع دول عربية لإجبار الفلسطينيين على القبول بخططه.
- الانحياز للقاعدة الانتخابية: جزء كبير من ناخبيه من المسيحيين الإنجيليين واليمين المحافظ، الذين يرون في دعم إسرائيل "تعبيراً عن الإرادة الإلهية".
- النرجسية والرغبة في الإبهار: ميله لإبرام "صفقات كبرى" يخدم صورته كرجل الأعمال الذي يحل المشكلات المستعصية، حتى لو كانت على حساب التوازنات السياسية.
أنتجت مواقف وسياسات ترامب ردود فعل متطرفة، حيث رأى الفلسطينيين في سياساته إجهاضاً لحل الدولتين وتكريساً للاحتلال، وانتقدت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي خطواته، مؤكدين أنها تُعقد فرص السلام، بينما اعتبره كيان الاحتلال "أفضل حليف في التاريخ"، حيث حقق مكاسب استراتيجية دون ضغوط لوقف الاستيطان.
وقد عززت سياسات ترامب الهيمنة "الإسرائيلية"، لكنها عمقت الاستقطاب وأضعفت دور الولايات المتحدة كوسيط "نزيه"، فقد أظهرت استطلاعات الرأي، انخفاض ثقة الفلسطينيين بالولايات المتحدة إلى أدنى مستوياتها التاريخية خلال عهده، حيث رأى %89 من الفلسطينيين أن قرار ترامب -بالاعتراف بالقدس عاصمة لكيان الاحتلال- ينتهك حقوقهم، واعتبر %82 أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على لعب دور وسيط نزيه، وفي استطلاع رأي لمركز بيو للأبحاث (Pew Research Center)، عام 2018 اعتبر %85 من المستطلع آراءهم أن السياسة الأمريكية منحازة لكيان الاحتلال بشكل كامل.
الخلاصة:
"الترامبية" هي نتاج تحولات اقتصادية واجتماعية وسياسية عميقة في الولايات المتحدة، وتمثل رد فعل على الإحباط من النخب والعولمة، بينما نجحت في تعبئة قاعدة جماهيرية كبيرة، فإن مستقبلها يعتمد على قدرتها على التكيف مع التحديات الجديدة دون الاعتماد الكلي على شخصية ترامب.
يسعى ترامب لتسجيل اسمه بين "العظماء" في التاريخ الأمريكي، لكن سياساته تتعارض مع التقاليد الجمهورية القديمة، مما يثير تساؤلات حول استدامة هذه الرؤية دون معارضة داخلية أو خارجية قوية.
وعلى الرغم من أن سياسات ترامب شكلت تحدياً استثنائياً للقضية الفلسطينية، فإنها كشفت أيضاً عن نقاط ضعف في المنظومة الفلسطينية يجب تجاوزها، لذا على الفلسطينيين تحويل الأزمة إلى فرصة لإعادة بناء الاستراتيجية الفلسطينية على أسس أكثر مرونة وقدرة على التأثير، مع الاستفادة من التضامن العالمي المتصاعد مع الحقوق الفلسطينية، والنجاح في ذلك يتطلب وحدة داخلية، وحنكة دبلوماسية، وإرادة سياسية لتبني أدوات مبتكرة في مواجهة التحيز الأمريكي.