تفكيك هندسة الإدراك الاستعماري وإعادة إنتاج السردية المقاومة: مقاربة معرفية فلسفية ونفسية من منظور فلسطيني
23 Jul 2025

الملخص:

تبحث هذه الدراسة في تموضُع المقاومة الفلسطينية في قلب معركة الإدراك العالمي، متجاوزةالتصنيفات التقليدية للصراع التي تختزل النصر في السيطرة المادية أو الحسم العسكريتنطلقالدراسة من فرضية تؤكد أن الوعي المقاوم لا يتكوّن في الفراغ، بل يُنتج عبر تفكيك الهندسة الإدراكيةالتي أسسها المشروع الاستعماريتعتمد المقاربة على ثلاثية تحليلية تجمع بين الفلسفة، فيزياء الكم،وأدوات علم النفس المعرفي، لتبيّن أن السردية الفلسطينية تمارس فعلًا إدراكيًا مركّبًا يعيد صياغةالعالم نفسه، لا مجرد التفاعل معهوتخلص إلى أن الانتصار يتموضع في الحقل الرمزي-الطاقوي لا فيمجرد تغيير الحدود أو توازنات القوة.

الكلمات المفتاحيةالإدراك، السردية، المقاومة، فيزياء الكم، الهيمنة المعرفية، فلسطين، النصرالرمزي.

 

١المقدمة:

تشكّل فلسطين نقطة اختراق مركزية في نسيج السردية الكولونياليةالحديثةفهي تُعرّي الهندسةالعميقة التي قام عليها المشروع الغربي منذ صعود الحداثةثنائية السيطرة والإخضاع، إنتاج الزمنالخطي، وتطويع الإدراك عبر أدوات الإعلام والتقنيةمنذ نكبة 1948 وحتى اليوم، لم تُقَدّم فلسطيننفسها فقط كمأساة إنسانية، بل كوحدة معرفية مقاومة، تُمارس إعادة تدوير للزمن، وإعادة توليدللكرامة.

التقدّم العسكري أو التكنولوجي، رغم أهميته، لا يحدّد وحده مستقبل الشعوبهذا ما تؤكده فلسطين،حين تتكرّر دورة المقاومة وتتوسّع دون توقفهنا، تصبح المعركة إدراكية بالدرجة الأولىوتصبح أدواتالتحليل المعتادة، من نوع تحليل التوازنات السياسية أو العسكرية، غير كافية لتفسير المسارتتطلبهذه اللحظة أدوات جديدة في النظر، تنتمي إلى حقل فلسفي موسّع يستثمر في علوم الفيزياء الحديثةوعلم النفس العميق.

 

٢إشكالية الدراسة:

تُطرح الإشكالية ضمن التساؤل التالي:

كيف يمكن تفسير استمرارية الفعل المقاوم الفلسطيني وانتصاراته الرمزية من خلال مقاربة إدراكية،تُعيد تعريف النصر من منظور فلسفي-نفسي-فيزيائي؟

تتفرّع عنها الأسئلة الفرعية التالية:

ما هي أدوات الهيمنة الإدراكية التي استخدمها المشروع الغربي في التعامل مع فلسطين؟

كيف تُنتج المقاومة الفلسطينية سردية تتجاوز المفاهيم الزمنية والخطابية الغربية؟

ما العلاقة بين المقاومة الفيزيائية والمقاومة الإدراكية؟

كيف يمكن أن تُساهم أدوات علم النفس المعرفي في تفسير فعل المقاومة وتحوّل الوعي الجمعي؟

 

٣الإطار النظريالإدراك والسردية والمقاومة

٣.١السردية كحقل قوى إدراكي:

وفق تعريف بول ريكور (Ricoeur, 1984)، تُعد السردية فعلاً تأويليًا يُعيد بناء الزمن والذات والمعنى، عبرترتيب الوقائع لا حسب تسلسلها الزمني، بل حسب قيمتها الرمزيةوحين يُعيد الفلسطيني إنتاج حكايةالصمود من قلب الحصار، فهو يُمارس فعلًا سرديًا يزعزع البنية الزمنية التي أرساها المستعمر.

تُظهر الدراسات التي اشتغلت على ما بعد الكولونيالية، مثل إدوارد سعيد (Said, 1978) وهومي بهابها(Bhabha, 1994)، أن السردية الكولونيالية تعتمد بنيويًا على خنق الزمن الأصلي للمُستَعمَرأماالمقاومة، فتُعيد تحرير الزمن أولًا.

٣.٢الإدراك كأداة سيطرة:

تُشير نظرية "التأطير الإدراكيفي علم النفس المعرفي (Tversky& Kahneman, 1981) إلى أن الإنسانلا يتلقّى الواقع كما هو، بل يراه وفق طريقة تأطيره داخل اللغة والصورة والخطابوهكذا، تصبح الروايةالإعلامية الغربية عن "حق الدفاعأو "مكافحة الإرهابأدوات تشويه إدراكي، يُعاد بها إنتاج الهيمنةغير أن السردية الفلسطينية، عبر مشاهد الموت المحاكي للحياة، تُحدث خرقًا في هذا التأطير.

 

٤فيزياء الكم والوعي المقاوممن مبدأ التأثير إلى إعادة تشكيل الزمن

٤.١مبدأ التأثير الكمي وتحوّل الإدراك

ضمن نماذج فيزياء الكم، تُشير تجربة الشق المزدوج (Double-Slit Experiment) إلى أن الجسيميسلك سلوكًا مختلفًا عندما يُراقَبما يعني أن فعل المراقبة ليس محايدًا، بل يغيّر النتيجة نفسها(Feynman, 1965). على المستوى المجازي، تُشبه المقاومة الفلسطينية هذا «الجسيم»، حيث يتحوّلالفعل المقاوم من محليّ إلى كونيّ بمجرد أن يُراقَب من ملايين الأعين، فتتحوّل الحكاية من جغرافياضيقة إلى فضاء رمزي كوني.

حين تُسجَّل مشاهد الدمار في غزة، أو يُلتقط وجه أمّ شهيد، فإن الصورة تنتقل من كونها مادة خبرية إلىطاقة إدراكيةالمشاهد تشكّل موجات رمزية تُعيد تشكيل حقل الإدراك العالمي، وتُربك الخطابالإعلامي الغربي المُصمَّم مسبقًا وفق منظومات السيطرة النفسية.

٤.٢الحضور الغائب في المعادلة الكمّية

وفق نظرية هايزنبرغ حول مبدأ عدم اليقين (Heisenberg, 1927)، لا يمكن تحديد موقع وسرعةالجسيم معًاأي أن الواقع في ذاته يتجاوز أي يقين مطلقيتقاطع هذا مع الطريقة التي تشتغل بهاالمقاومة الفلسطينيةتتحرك داخل الفراغات، تتجاوز الحسابات الكلاسيكية، تخلق وجودها من حيث لايتوقع العدو.

الحقل الكمّي، بحسب بور (Bohr, 1958)، هو شبكة احتمالات، وليس مجموعة نتائجوبهذا المعنى،تُعيد المقاومة إنتاج نفسها داخل الزمن كموجة غير محسوبة، لا يمكن تتبعها ضمن خرائط الصراعالتقليديةكل صاروخ يُطلَق، وكل نفق يُحفر، هو فعل مقاوم ضد منطق التنبؤ الاستعماري، وضد احتكارالمعرفة عن المستقبل.

 

٥أدوات علم النفس المعرفي في فهم المقاومة

٥.١الإدراك الجمعي وإعادة ترميز الخوف

في علم النفس العصبي، يُعد الخوف أحد أقوى المحرّكات للقرار والسلوك (LeDoux, 1996). غير أنالمقاومة الفلسطينية تُعيد صياغة الخوف من حالة شلل إلى حالة حركةالطفل الفلسطيني لا يُربّى علىتجنّب الرصاص، بل على تجاوزه إدراكيًاهنا تنشأ "إعادة ترميز Reframing" إدراكي يقوم على استبدالتمثلات الخطر بأفق الفعل والتضحية (Beck, 2008).

كل منزل يُقصف لا يُمثّل تراجعًا نفسيًا، بل وحدة إدراكية لإنتاج معنى جديد للوجودتساهم الأدواتالنفسية الجماعية — من الحكي الشعبي، إلى الأناشيد، إلى جداريات الشهداء — في تثبيت هذه الرموزالجديدة داخل البنية العصبية الجماعية.

٥.٢العقل المقاوم كمجال معرفي متحرّك

وفق نظرية جان بياجيه حول التكيّف المعرفي (Piaget, 1970)، يبني الفرد نسقه الإدراكي من خلالعمليتي التمثل والمواءمةتُمارس المجتمعات المقاومة هذه العمليات بصورة جماعية، حيث يتمتكييف المفاهيم التقليدية مثل "الحياة"، "الموت"، "الأمان"، "النجاة"، بطريقة تُعيد ترتيب سُلّم القيم.

في السياق الغربي، يُعدّ النجاة هدفًا مركزيًاأما في السياق الفلسطيني، فتتقدّم الكرامة والشهادة فيمنظومة الإدراك، ما يفسّر القدرة على الاستمرار رغم الكلفة العالية.

 

٦السردية المقاومة كحقل فيزيائي معرفي

٦.١الطوفان كحدث فيزيائي-رمزي

عملية “طوفان الأقصى” لا يمكن تحليلها فقط كضربة عسكرية، بل كإزاحة كبرى في بنية الزمن العربيتشبه في قوتها ما يسميه نيتشهبـالعودة الأبدية” (Nietzsche, 1887)، حيث يتحوّل الفعل إلى مركزجاذبية تاريخية يُعيد إنتاج الذاكرة والوعي. \n\nمثلما تحدث الصدمة الكهربائية انتقالًا كمّيًا في الطاقة،تُحدث الصدمة الرمزية ــ مثل اقتحام مستوطنات أو إسقاط مروحية ــ انتقالًا في الإدراك العالمييتغيّرموقع فلسطين في خريطة الوعي، من الهامش إلى المركز، من قضية تضامن إلى رمز كوني للمعنى.

٦.٢السردية كمجال طاقوي

يُعرّف عالم اللسانيات جورج لاكوف (Lakoff, 2004) السردية السياسية على أنها شبكة من “الاستعاراتالمفهومية” التي تشكّل نظرة الفرد للعالموتُثبت فلسطين أن هذه الاستعارات يمكن قلبهاما كانيُدعى “دفاعًا عن النفس” بات يُرى كإبادةوما كان يُوصف كـإرهاب” بات يُفهم كتحرر.

هذا التحول الإدراكي لا يتم عبر الخطاب الرسمي وحده، بل عبر تراكُم الصور، الأصوات، والشهادات التيتُعيد تشكيل الدماغ الجمعي العالميوقد أظهرت دراسات أمريكية حديثة (Pew Research, 2024) أنالنسبة الأعلى من الشباب الأمريكي تحت 30 عامًا باتت تتعاطف مع فلسطين، وتُشكّك بوجود الكيانأصلًا.

 

٧دور فلسطين في زعزعة الزمن الاستعماري

٧.١فلسطين كبوصلة للزمن الحضاري

تؤسّس فلسطين لنموذج معرفي يتجاوز الجغرافيا السياسية، لتصبح تمثيلًا مكثفًا لصراع الزمنتُقدّمالذاكرة الفلسطينية مادة خصبة لتحطيم الإيقاع الخطي الذي فرضته الحداثة الغربية، حيث يُقاسالتقدم بالسيطرة والتراكم الرأسماليمقابل هذا الإيقاع، تُنتج فلسطين زمنًا مقاومًا تُعاد فيه صياغةالبداية باستمرارالاستشهاد، التهجير، العودة، الولادة تحت القصف، كلها حلقات تُشكّل دورة وجودية لاتتقاطع مع منطق الزمن الاستعماري القائم على "ما فات لن يعود".

لا يتوقف الزمن الفلسطيني عند حدود النكبة، بل يتمدّد كثابت حيّ، يعيد إنتاج الماضي داخل الحاضرهنا يُصبح اللاجئ حاملًا لذاكرة قابلة لإعادة التفعيل، والمخيم مصنعًا لإعادة الزمن إلى الوراء بهدفالتقدّم إلى الأمام.

٧.٢تفكك الزمن الإمبراطوري أمام المشهد الفلسطيني

تحوّلت أدوات السيطرة الزمنية الغربية إلى عبء أمام الإصرار الفلسطيني على إعادة إحياء الزمنالجمعيوسائل الإعلام الكبرى، رغم سعيها لتحديد بداية الحدث ونهايته، تفشل في محاصرة الزمنالفلسطيني الذي يرفض أن يُختزل في تقارير أو ساعات بثفالمقاومة تُحوّل الحدث إلى ديمومةغارةواحدة تُفتح في الذاكرة لشهور، أما صورة طفل تحت الأنقاض فتتكرّر رمزيًا في كل بيت.

يشبه الزمن الفلسطيني طيفًا كميًا غير قابل للحصر في معادلات نيوتونية مستقرةالزمن هنا ليس مجردمسار، بل طاقة إدراكية حية تُدمج الأجيال وتُعيد تشكيل الخريطة المعرفية للعالم.

 

٨الاستنتاجات النهائية

تشكّل المقاومة الفلسطينية فعلًا إدراكيًا معقّدًا يدمج الفعل الفيزيائي بالرمز النفسي، ويُنتج نموذجًامضادًا للهندسة المعرفية الغربية.

لا يتحدد النصر بمعايير السيطرة الميدانية، بل ضمن حقل طاقويإدراكي قادر على زعزعة منظومةالمفاهيم الاستعمارية حول الزمن، الخوف، الحياة، والموت.

أدوات علم النفس المعرفي وفيزياء الكم تتيح تحليلًا معمّقًا لحالة المقاومة بوصفها إعادة بناء للواقع لامجرد استجابة له.

تُعيد فلسطين صياغة العالم كحالة معنوية مستمرة، لا كمساحة نزاع فقط، حيث تتحوّل الذاكرةالجماعية إلى طاقة مستقبلية.

يصبح كل فعل مقاوم - سواء كان صاروخًا، جدارية، أو شهادة - وحدة فيزيائية رمزية تُسهم في تفكيكالزمن الاستعماري وإعادة إنتاج الزمن المقاوم.

 

٩قائمة المراجع (APA 7th edition):

Bhabha, H. K. (1994). The Location of Culture. Routledge.

Beck, A. T. (2008). The Evolution of the Cognitive Model of Depression and Its Neurobiological Correlates. American Journal of Psychiatry, 165(8), 969–977.

Bohr, N. (1958). Atomic Physics and Human Knowledge. Wiley.

Feynman, R. P. (1965). The Character of Physical Law. MIT Press.

Heisenberg, W. (1927). "The Physical Content of Quantum Kinematics and Mechanics." Zeitschrift für Physik, 43, 172–198.

Lakoff, G. (2004). Don't Think of an Elephant!: Know Your Values and Frame the Debate. Chelsea Green Publishing.

LeDoux, J. (1996). The Emotional Brain: The Mysterious Underpinnings of Emotional Life. Simon & Schuster.

Nietzsche, F. (1887). On the Genealogy of Morality (W. Kaufmann, Trans.). Vintage Books.

Piaget, J. (1970). The Science of Education and the Psychology of the Child. Viking Press.

Pew Research Center. (2024). Young Americans’ Views on Israel and Palestine Shift Dramatically. https://www.pewresearch.org

Ricoeur, P. (1984). Time and Narrative, Vol. 1. University of Chicago Press.

Said, E. W. (1978). Orientalism. Pantheon Books.

Tversky, A., & Kahneman, D. (1981). The Framing of Decisions and the Psychology of Choice. Science, 211(4481), 453–458.