الملخص:
تبحث هذه الدراسة في تموضُع المقاومة الفلسطينية في قلب معركة الإدراك العالمي، متجاوزةالتصنيفات التقليدية للصراع التي تختزل النصر في السيطرة المادية أو الحسم العسكري. تنطلقالدراسة من فرضية تؤكد أن الوعي المقاوم لا يتكوّن في الفراغ، بل يُنتج عبر تفكيك الهندسة الإدراكيةالتي أسسها المشروع الاستعماري. تعتمد المقاربة على ثلاثية تحليلية تجمع بين الفلسفة، فيزياء الكم،وأدوات علم النفس المعرفي، لتبيّن أن السردية الفلسطينية تمارس فعلًا إدراكيًا مركّبًا يعيد صياغةالعالم نفسه، لا مجرد التفاعل معه. وتخلص إلى أن الانتصار يتموضع في الحقل الرمزي-الطاقوي لا فيمجرد تغيير الحدود أو توازنات القوة.
الكلمات المفتاحية: الإدراك، السردية، المقاومة، فيزياء الكم، الهيمنة المعرفية، فلسطين، النصرالرمزي.
١. المقدمة:
تشكّل فلسطين نقطة اختراق مركزية في نسيج السردية الكولونياليةالحديثة. فهي تُعرّي الهندسةالعميقة التي قام عليها المشروع الغربي منذ صعود الحداثة: ثنائية السيطرة والإخضاع، إنتاج الزمنالخطي، وتطويع الإدراك عبر أدوات الإعلام والتقنية. منذ نكبة 1948 وحتى اليوم، لم تُقَدّم فلسطيننفسها فقط كمأساة إنسانية، بل كوحدة معرفية مقاومة، تُمارس إعادة تدوير للزمن، وإعادة توليدللكرامة.
التقدّم العسكري أو التكنولوجي، رغم أهميته، لا يحدّد وحده مستقبل الشعوب. هذا ما تؤكده فلسطين،حين تتكرّر دورة المقاومة وتتوسّع دون توقف. هنا، تصبح المعركة إدراكية بالدرجة الأولى. وتصبح أدواتالتحليل المعتادة، من نوع تحليل التوازنات السياسية أو العسكرية، غير كافية لتفسير المسار. تتطلبهذه اللحظة أدوات جديدة في النظر، تنتمي إلى حقل فلسفي موسّع يستثمر في علوم الفيزياء الحديثةوعلم النفس العميق.
٢. إشكالية الدراسة:
تُطرح الإشكالية ضمن التساؤل التالي:
كيف يمكن تفسير استمرارية الفعل المقاوم الفلسطيني وانتصاراته الرمزية من خلال مقاربة إدراكية،تُعيد تعريف النصر من منظور فلسفي-نفسي-فيزيائي؟
تتفرّع عنها الأسئلة الفرعية التالية:
ما هي أدوات الهيمنة الإدراكية التي استخدمها المشروع الغربي في التعامل مع فلسطين؟
كيف تُنتج المقاومة الفلسطينية سردية تتجاوز المفاهيم الزمنية والخطابية الغربية؟
ما العلاقة بين المقاومة الفيزيائية والمقاومة الإدراكية؟
كيف يمكن أن تُساهم أدوات علم النفس المعرفي في تفسير فعل المقاومة وتحوّل الوعي الجمعي؟
٣. الإطار النظري: الإدراك والسردية والمقاومة
٣.١. السردية كحقل قوى إدراكي:
وفق تعريف بول ريكور (Ricoeur, 1984)، تُعد السردية فعلاً تأويليًا يُعيد بناء الزمن والذات والمعنى، عبرترتيب الوقائع لا حسب تسلسلها الزمني، بل حسب قيمتها الرمزية. وحين يُعيد الفلسطيني إنتاج حكايةالصمود من قلب الحصار، فهو يُمارس فعلًا سرديًا يزعزع البنية الزمنية التي أرساها المستعمر.
تُظهر الدراسات التي اشتغلت على ما بعد الكولونيالية، مثل إدوارد سعيد (Said, 1978) وهومي بهابها(Bhabha, 1994)، أن السردية الكولونيالية تعتمد بنيويًا على خنق الزمن الأصلي للمُستَعمَر. أماالمقاومة، فتُعيد تحرير الزمن أولًا.
٣.٢. الإدراك كأداة سيطرة:
تُشير نظرية "التأطير الإدراكي" في علم النفس المعرفي (Tversky& Kahneman, 1981) إلى أن الإنسانلا يتلقّى الواقع كما هو، بل يراه وفق طريقة تأطيره داخل اللغة والصورة والخطاب. وهكذا، تصبح الروايةالإعلامية الغربية عن "حق الدفاع" أو "مكافحة الإرهاب" أدوات تشويه إدراكي، يُعاد بها إنتاج الهيمنة. غير أن السردية الفلسطينية، عبر مشاهد الموت المحاكي للحياة، تُحدث خرقًا في هذا التأطير.
٤. فيزياء الكم والوعي المقاوم: من مبدأ التأثير إلى إعادة تشكيل الزمن
٤.١. مبدأ التأثير الكمي وتحوّل الإدراك
ضمن نماذج فيزياء الكم، تُشير تجربة الشق المزدوج (Double-Slit Experiment) إلى أن الجسيميسلك سلوكًا مختلفًا عندما يُراقَب. ما يعني أن فعل المراقبة ليس محايدًا، بل يغيّر النتيجة نفسها(Feynman, 1965). على المستوى المجازي، تُشبه المقاومة الفلسطينية هذا «الجسيم»، حيث يتحوّلالفعل المقاوم من محليّ إلى كونيّ بمجرد أن يُراقَب من ملايين الأعين، فتتحوّل الحكاية من جغرافياضيقة إلى فضاء رمزي كوني.
حين تُسجَّل مشاهد الدمار في غزة، أو يُلتقط وجه أمّ شهيد، فإن الصورة تنتقل من كونها مادة خبرية إلىطاقة إدراكية. المشاهد تشكّل موجات رمزية تُعيد تشكيل حقل الإدراك العالمي، وتُربك الخطابالإعلامي الغربي المُصمَّم مسبقًا وفق منظومات السيطرة النفسية.
٤.٢. الحضور الغائب في المعادلة الكمّية
وفق نظرية هايزنبرغ حول مبدأ عدم اليقين (Heisenberg, 1927)، لا يمكن تحديد موقع وسرعةالجسيم معًا. أي أن الواقع في ذاته يتجاوز أي يقين مطلق. يتقاطع هذا مع الطريقة التي تشتغل بهاالمقاومة الفلسطينية: تتحرك داخل الفراغات، تتجاوز الحسابات الكلاسيكية، تخلق وجودها من حيث لايتوقع العدو.
الحقل الكمّي، بحسب بور (Bohr, 1958)، هو شبكة احتمالات، وليس مجموعة نتائج. وبهذا المعنى،تُعيد المقاومة إنتاج نفسها داخل الزمن كموجة غير محسوبة، لا يمكن تتبعها ضمن خرائط الصراعالتقليدية. كل صاروخ يُطلَق، وكل نفق يُحفر، هو فعل مقاوم ضد منطق التنبؤ الاستعماري، وضد احتكارالمعرفة عن المستقبل.
٥. أدوات علم النفس المعرفي في فهم المقاومة
٥.١. الإدراك الجمعي وإعادة ترميز الخوف
في علم النفس العصبي، يُعد الخوف أحد أقوى المحرّكات للقرار والسلوك (LeDoux, 1996). غير أنالمقاومة الفلسطينية تُعيد صياغة الخوف من حالة شلل إلى حالة حركة. الطفل الفلسطيني لا يُربّى علىتجنّب الرصاص، بل على تجاوزه إدراكيًا. هنا تنشأ "إعادة ترميز Reframing" إدراكي يقوم على استبدالتمثلات الخطر بأفق الفعل والتضحية (Beck, 2008).
كل منزل يُقصف لا يُمثّل تراجعًا نفسيًا، بل وحدة إدراكية لإنتاج معنى جديد للوجود. تساهم الأدواتالنفسية الجماعية — من الحكي الشعبي، إلى الأناشيد، إلى جداريات الشهداء — في تثبيت هذه الرموزالجديدة داخل البنية العصبية الجماعية.
٥.٢. العقل المقاوم كمجال معرفي متحرّك
وفق نظرية جان بياجيه حول التكيّف المعرفي (Piaget, 1970)، يبني الفرد نسقه الإدراكي من خلالعمليتي التمثل والمواءمة. تُمارس المجتمعات المقاومة هذه العمليات بصورة جماعية، حيث يتمتكييف المفاهيم التقليدية مثل "الحياة"، "الموت"، "الأمان"، "النجاة"، بطريقة تُعيد ترتيب سُلّم القيم.
في السياق الغربي، يُعدّ النجاة هدفًا مركزيًا. أما في السياق الفلسطيني، فتتقدّم الكرامة والشهادة فيمنظومة الإدراك، ما يفسّر القدرة على الاستمرار رغم الكلفة العالية.
٦. السردية المقاومة كحقل فيزيائي معرفي
٦.١. الطوفان كحدث فيزيائي-رمزي
عملية “طوفان الأقصى” لا يمكن تحليلها فقط كضربة عسكرية، بل كإزاحة كبرى في بنية الزمن العربي. تشبه في قوتها ما يسميه نيتشهبـ“العودة الأبدية” (Nietzsche, 1887)، حيث يتحوّل الفعل إلى مركزجاذبية تاريخية يُعيد إنتاج الذاكرة والوعي. \n\nمثلما تحدث الصدمة الكهربائية انتقالًا كمّيًا في الطاقة،تُحدث الصدمة الرمزية ــ مثل اقتحام مستوطنات أو إسقاط مروحية ــ انتقالًا في الإدراك العالمي. يتغيّرموقع فلسطين في خريطة الوعي، من الهامش إلى المركز، من قضية تضامن إلى رمز كوني للمعنى.
٦.٢. السردية كمجال طاقوي
يُعرّف عالم اللسانيات جورج لاكوف (Lakoff, 2004) السردية السياسية على أنها شبكة من “الاستعاراتالمفهومية” التي تشكّل نظرة الفرد للعالم. وتُثبت فلسطين أن هذه الاستعارات يمكن قلبها. ما كانيُدعى “دفاعًا عن النفس” بات يُرى كإبادة. وما كان يُوصف كـ“إرهاب” بات يُفهم كتحرر.
هذا التحول الإدراكي لا يتم عبر الخطاب الرسمي وحده، بل عبر تراكُم الصور، الأصوات، والشهادات التيتُعيد تشكيل الدماغ الجمعي العالمي. وقد أظهرت دراسات أمريكية حديثة (Pew Research, 2024) أنالنسبة الأعلى من الشباب الأمريكي تحت 30 عامًا باتت تتعاطف مع فلسطين، وتُشكّك بوجود الكيانأصلًا.
٧. دور فلسطين في زعزعة الزمن الاستعماري
٧.١. فلسطين كبوصلة للزمن الحضاري
تؤسّس فلسطين لنموذج معرفي يتجاوز الجغرافيا السياسية، لتصبح تمثيلًا مكثفًا لصراع الزمن. تُقدّمالذاكرة الفلسطينية مادة خصبة لتحطيم الإيقاع الخطي الذي فرضته الحداثة الغربية، حيث يُقاسالتقدم بالسيطرة والتراكم الرأسمالي. مقابل هذا الإيقاع، تُنتج فلسطين زمنًا مقاومًا تُعاد فيه صياغةالبداية باستمرار. الاستشهاد، التهجير، العودة، الولادة تحت القصف، كلها حلقات تُشكّل دورة وجودية لاتتقاطع مع منطق الزمن الاستعماري القائم على "ما فات لن يعود".
لا يتوقف الزمن الفلسطيني عند حدود النكبة، بل يتمدّد كثابت حيّ، يعيد إنتاج الماضي داخل الحاضر. هنا يُصبح اللاجئ حاملًا لذاكرة قابلة لإعادة التفعيل، والمخيم مصنعًا لإعادة الزمن إلى الوراء بهدفالتقدّم إلى الأمام.
٧.٢. تفكك الزمن الإمبراطوري أمام المشهد الفلسطيني
تحوّلت أدوات السيطرة الزمنية الغربية إلى عبء أمام الإصرار الفلسطيني على إعادة إحياء الزمنالجمعي. وسائل الإعلام الكبرى، رغم سعيها لتحديد بداية الحدث ونهايته، تفشل في محاصرة الزمنالفلسطيني الذي يرفض أن يُختزل في تقارير أو ساعات بث. فالمقاومة تُحوّل الحدث إلى ديمومة. غارةواحدة تُفتح في الذاكرة لشهور، أما صورة طفل تحت الأنقاض فتتكرّر رمزيًا في كل بيت.
يشبه الزمن الفلسطيني طيفًا كميًا غير قابل للحصر في معادلات نيوتونية مستقرة. الزمن هنا ليس مجردمسار، بل طاقة إدراكية حية تُدمج الأجيال وتُعيد تشكيل الخريطة المعرفية للعالم.
٨. الاستنتاجات النهائية
تشكّل المقاومة الفلسطينية فعلًا إدراكيًا معقّدًا يدمج الفعل الفيزيائي بالرمز النفسي، ويُنتج نموذجًامضادًا للهندسة المعرفية الغربية.
لا يتحدد النصر بمعايير السيطرة الميدانية، بل ضمن حقل طاقويإدراكي قادر على زعزعة منظومةالمفاهيم الاستعمارية حول الزمن، الخوف، الحياة، والموت.
أدوات علم النفس المعرفي وفيزياء الكم تتيح تحليلًا معمّقًا لحالة المقاومة بوصفها إعادة بناء للواقع لامجرد استجابة له.
تُعيد فلسطين صياغة العالم كحالة معنوية مستمرة، لا كمساحة نزاع فقط، حيث تتحوّل الذاكرةالجماعية إلى طاقة مستقبلية.
يصبح كل فعل مقاوم - سواء كان صاروخًا، جدارية، أو شهادة - وحدة فيزيائية رمزية تُسهم في تفكيكالزمن الاستعماري وإعادة إنتاج الزمن المقاوم.
٩. قائمة المراجع (APA 7th edition):
Bhabha, H. K. (1994). The Location of Culture. Routledge.
Beck, A. T. (2008). The Evolution of the Cognitive Model of Depression and Its Neurobiological Correlates. American Journal of Psychiatry, 165(8), 969–977.
Bohr, N. (1958). Atomic Physics and Human Knowledge. Wiley.
Feynman, R. P. (1965). The Character of Physical Law. MIT Press.
Heisenberg, W. (1927). "The Physical Content of Quantum Kinematics and Mechanics." Zeitschrift für Physik, 43, 172–198.
Lakoff, G. (2004). Don't Think of an Elephant!: Know Your Values and Frame the Debate. Chelsea Green Publishing.
LeDoux, J. (1996). The Emotional Brain: The Mysterious Underpinnings of Emotional Life. Simon & Schuster.
Nietzsche, F. (1887). On the Genealogy of Morality (W. Kaufmann, Trans.). Vintage Books.
Piaget, J. (1970). The Science of Education and the Psychology of the Child. Viking Press.
Pew Research Center. (2024). Young Americans’ Views on Israel and Palestine Shift Dramatically. https://www.pewresearch.org
Ricoeur, P. (1984). Time and Narrative, Vol. 1. University of Chicago Press.
Said, E. W. (1978). Orientalism. Pantheon Books.
Tversky, A., & Kahneman, D. (1981). The Framing of Decisions and the Psychology of Choice. Science, 211(4481), 453–458.