أولاً: مقدمة
شهدت مدينتا رام الله والبيرة منذ ساعات الصباح سلسلة اقتحامات عسكرية واسعة النطاق نفذتها قوات الاحتلال الإسرائيلي. ووفق ما نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت، فإن العملية تشارك فيها وحدات خاصة من الجيش وحرس الحدود ووحدة “دوفدوفان”، وتركز على إغلاق محال صرافة ومصادرة أموال يُعتقد أنها مرتبطة بأنشطة المقاومة.
هذا التطور يكشف أن الأمر يتجاوز كونه مجرد حملة ميدانية عابرة، ليتحول إلى عملية مركبة ذات أبعاد أمنية–اقتصادية–سياسية، تحمل دلالات استراتيجية عميقة بشأن واقع السلطة الفلسطينية وحدود سيادتها.
ثانياً: السياق العام
• تصاعد العدوان الإسرائيلي منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 وما تبعه من حرب إبادة في غزة.
• تزايد وتيرة الاقتحامات في الضفة الغربية وتحوّلها من عمليات أمنية محدودة إلى حملات منظمة تشمل مراكز المدن.
• الأزمة المتفاقمة للسلطة الفلسطينية، سواء على مستوى الشرعية الداخلية أو علاقتها بالاحتلال.
• المناخ الدولي والإقليمي المنشغل بصراعات كبرى، ما يمنح إسرائيل هامش حركة أوسع لمواصلة فرض وقائع جديدة في الضفة الغربية.
ثالثاً: التحليل
1. انكشاف محدودية السيادة
الاقتحام في قلب رام الله، مقر مؤسسات السلطة، يوضح أن السيادة الفلسطينية المقيدة في مناطق “أ” فقدت مضمونها بالكامل. لم تعد هناك أي خطوط حمراء تمنع الاحتلال من ممارسة سلطته العسكرية والأمنية في أي مكان وزمان.
2. الأزمة البنيوية للسلطة الفلسطينية
استمرار التنسيق الأمني جعل من السلطة جهازاً وظيفياً يخدم متطلبات الاحتلال أكثر مما يحمي الشعب. البنية التي تأسست منذ أوسلو باتت عاجزة عن ممارسة أي دور سيادي حقيقي، سواء في حماية الأرض أو الدفاع عن الاقتصاد المحلي.
3. صفعة سياسية أمام الجمهور
الاقتحامات تحمل رسالة سياسية صريحة: السلطة بلا وزن سيادي. في الوقت نفسه، يشهد الجمهور الفلسطيني على عجز السلطة، مما يفاقم أزمتها الداخلية ويضعها في مواجهة مباشرة مع شعبها.
4. إعادة إنتاج المعادلة الفاشلة
المعادلة القائمة منذ ثلاثة عقود (سلطة بلا سيادة + احتلال بلا التزام) وصلت إلى نهاياتها. استمرارها بات مكلفاً على الصعيدين السياسي والمجتمعي، ويكرس التبعية بدلاً من التحرر.
5. البعد الاقتصادي–الأمني لعملية رام الله
إضافة إلى البعد العسكري، يكشف خبر يديعوت أحرونوت أن العملية تستهدف محال الصرافة ومصادرة الأموال.
• المغزى الأمني: الاحتلال يعتبر أن النشاط المالي الفلسطيني جزء من بنية دعم المقاومة، لذلك يوسع عملياته إلى المجال الاقتصادي، بهدف تجفيف الموارد وتقويض شبكات التمويل.
• الرسالة للسلطة: السلطة الفلسطينية تُترك خارج المعادلة حتى في مجال حساس مثل النظام المالي، ما يعني أن الاحتلال يتعامل معها كجسم إداري منزوع الصلاحية.
• الرسالة للشعب: لا وجود لملاذ آمن، حتى في الاقتصاد المدني، فالاحتلال قادر على مصادرة الأموال وإغلاق المؤسسات في قلب رام الله بلا رادع.
• الدلالة الاستراتيجية: العملية تؤكد أن إسرائيل تخوض حرباً مركبة لا تستهدف المقاومة فقط، بل تطال البنية التحتية المالية والمجتمعية الفلسطينية ككل، في محاولة لتكريس السيطرة الشاملة.
رابعاً: الاستنتاجات
• ما يجري ليس حملة أمنية بل عملية سياسية–أمنية مركبة تكشف عن انعدام السيادة الفلسطينية فعلياً.
• السلطة الفلسطينية تظهر عاجزة أمام جماهيرها، بعد أن فقدت القدرة على حماية حتى النظام المالي.
• الاحتلال يوظف هذه العمليات لترسيخ معادلة جديدة: السيطرة الكاملة على الأرض والاقتصاد والمجتمع، مع تهميش متزايد لدور السلطة.
• استمرار هذه السياسة يقود إلى مزيد من تآكل شرعية السلطة وإلى تعميق قناعة فلسطينية بضرورة البحث عن بدائل وطنية جامعة.
خامساً: التوصيات
1. مراجعة شاملة للتنسيق الأمني: باعتباره الأداة الرئيسية التي تكبل القرار الفلسطيني وتُفقده استقلاليته.
2. بناء استراتيجية اقتصادية مضادة: تطوير شبكات مالية بديلة، محلية ودولية، للحد من قدرة الاحتلال على التحكم في الموارد الفلسطينية.
3. تفعيل الأدوات القانونية الدولية: تقديم شكاوى رسمية ضد استهداف البنية الاقتصادية المدنية باعتباره خرقاً للقانون الدولي الإنساني.
4. إطلاق حوار وطني شامل: يدرس بدائل السلطة الحالية وصيغ إدارة وطنية أكثر استقلالية عن الاحتلال.
5. إعادة بناء الشرعية الشعبية: من خلال انتخابات أو مجالس وطنية توافقية تعكس الإرادة الشعبية لا قيود الاتفاقيات.
6. تعزيز المقاومة الشعبية والمدنية: مواجهة سياسات الاحتلال عبر مبادرات المقاطعة، وتوسيع شبكات الصمود المجتمعي.
7. تطوير خطاب إعلامي–سياسي دولي: يبرز استهداف الاقتصاد المدني كأحد أوجه الحرب الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، ويعيد تركيز القضية في إطارها التحرري.
خاتمة
إن العملية العسكرية في رام الله والبيرة، بمشاركة وحدات خاصة واستهدافها للمجال الاقتصادي، تمثل مؤشراً خطيراً على انتقال الاحتلال إلى مرحلة جديدة من السيطرة المركبة: الأمنية والسياسية والاقتصادية. هذه العملية تفضح وهم السيادة الفلسطينية وتدق ناقوس الخطر حول جدوى استمرار المعادلة الراهنة. المطلوب اليوم مراجعة جذرية شاملة تفتح الطريق أمام إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني على أسس المقاومة والوحدة الشعبية، بعيداً عن قيود السلطة الوظيفية.