قراءة فلسطينية في مقال آنا براسكي – معاري
وحدة الدرسات الاسرائيلية
المقدمة
منذ السابع من أكتوبر 2023، دخلت إسرائيل في واحدة من أعقد أزماتها الاستراتيجية، حيث واجهت تحدياً مزدوجاً: حرب مفتوحة على جبهة غزة، وضغطاً متصاعداً من المجتمع الدولي. وبعد مرور قرابة عامين من الإبادة المنظمة والعمليات العسكرية المتواصلة، تكشف مقالة آنا براسكي في صحيفة معاريف (2025) عن مأزق إسرائيلي مركّب: التناقض بين السعي نحو “النصر المطلق” عسكرياً وبين المطالبة السياسية بوقف الحرب وإبرام صفقة للأسرى. هذه المقالة ليست مجرد تحليل صحفي، بل هي انعكاس لجدل أعمق داخل النخب الإسرائيلية حول حدود القوة وأثمان الاستمرار في الحرب.
تشير براسكي إلى أن إسرائيل “لم تعد عالقة بين التضليل الإعلامي والحسم العسكري، بل بين مسارين متناقضين: حملة عسكرية طويلة الأمد أو فرصة سياسية قصيرة” (Braschi, 2025). ويكشف هذا الطرح عن إدراك متنامٍ في الداخل الإسرائيلي بأن الزمن لم يعد حليفاً، بل أصبح عاملاً مسرّعاً لتآكل شرعية الدولة العبرية على المستويين الدولي والداخلي.
تتوافق هذه القراءة مع ما طرحته الباحثة دايانا بوتو، المستشارة القانونية السابقة لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي أكدت أن “إسرائيل تواجه اليوم عزلة غير مسبوقة، حيث باتت صورة الدولة الديمقراطية المزعومة تتآكل مع كل يوم يستمر فيه نزيف غزة” (Buttu, 2024). كما يرى جدعون ليفي، الكاتب في هآرتس، أن إصرار نتنياهو على مطاردة “انتصار كامل” إنما يضع إسرائيل في مواجهة مع العالم أجمع، بما في ذلك أقرب حلفائها في أوروبا والولايات المتحدة (Levy, 2024).
على مستوى السياسات الدولية، يشير ريتشارد فولك، المقرر الأممي السابق لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، إلى أن “الطابع الكارثي للحرب في غزة ولّد تحولات ملموسة في المزاج السياسي الأوروبي، حيث أخذت الحكومات تترجم المواقف الأخلاقية إلى إجراءات سياسية كالعقوبات والاعتراف بالدولة الفلسطينية” (Falk, 2024). هذا التحول، الذي وصفته براسكي بـ”الديناميكية السياسية الأوروبية المتسارعة”، يمثل مؤشراً على انتقال إسرائيل من موقع الفاعل المهيمن إلى موقع الطرف المعزول دولياً.
وعليه، تهدف هذه الورقة إلى قراءة تحليلية – من منظور فلسطيني – للمقالة المنشورة في معاريف، مع استحضار السياقات البحثية والدراسات الداعمة التي تبرز مأزق إسرائيل الاستراتيجي. وستتوزع الورقة على محاور رئيسية تعالج: المعضلة بين الحسم العسكري والصفقات الجزئية، قضية المختطفين، العزلة الدولية المتصاعدة، الوهم العسكري حول احتلال غزة، وأخيراً مأزق نتنياهو الشخصي المرتبط بالزمن. ثم تُختتم الورقة باستخلاصات فلسطينية وتوصيات استراتيجية يمكن استثمارها في المرحلة القادمة.
⸻
1. المعضلة الإسرائيلية بين الحسم العسكري والحلول الجزئية
أ. الحسم العسكري وهم أم استراتيجية؟
يعتمد نتنياهو في خطابه على فرضية أن احتلال مدينة غزة – بوصفها القلب الرمزي والسياسي لحركة حماس – يمكن أن يؤدي إلى انهيارها الكامل. غير أن التجربة اللبنانية (1982 و2006) كشفت استحالة إنهاء حركات مقاومة شعبية بالاحتلال المباشر. وقد أكد إيال زيسر، الباحث الإسرائيلي في جامعة تل أبيب، أن “الحروب ضد الفاعلين غير الدولتيين لا يمكن أن تنتهي بانتصار تقليدي، بل غالباً ما تتحول إلى حروب استنزاف طويلة” (Zisser, 2023).
إضافة إلى ذلك، فإن تقديرات الجيش الإسرائيلي نفسه باتت أكثر تحفظاً، إذ أقر قادة عسكريون بأن العملية قد تستغرق “أشهر طويلة” من دون ضمان تحقيق الهدف المعلن. هذا التباين بين خطاب نتنياهو السياسي وتقديرات الجيش يعكس فجوة في الرؤية الاستراتيجية داخل مؤسسات الدولة العبرية.
ب. الحلول الجزئية البراغماتية كخيار مضطر
على الطرف المقابل، يطرح مسار آخر يقوم على إبرام صفقة جزئية مع المقاومة – تشمل تحرير عدد من المختطفين مقابل وقف مؤقت لإطلاق النار – بما يسمح لإسرائيل بترميم علاقاتها الدولية، خصوصاً مع أوروبا والولايات المتحدة. وتصف براسكي هذا الخيار بأنه “خط براغماتي بارد”، يتيح لإسرائيل استعادة مساحة مناورة سياسية ولو مؤقتة (Braschi, 2025).
وقد دعا بعض المحللين الإسرائيليين إلى هذا التوجه، مثل ألون بن دافيد الذي كتب في معاريف أن “إنقاذ جزء من المختطفين الآن، حتى لو كان ثمناً مؤلماً، قد يوفر لإسرائيل فرصة سياسية لالتقاط أنفاسها قبل الانزلاق إلى عزلة دولية خانقة” (Ben David, 2025).
ج. التناقض البنيوي
المعضلة تكمن في أن المسارين – العسكري والجزئي – متناقضان زمنياً وسياسياً:
• أي عملية عسكرية واسعة ستؤدي إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في غزة، ما يعجّل بالعزلة الدولية.
• وأي صفقة جزئية تعني عملياً اعترافاً بعجز إسرائيل عن تحقيق “النصر الكامل”، وهو ما يُضعف سردية نتنياهو أمام الداخل الإسرائيلي.
في هذا السياق، يمكن قراءة تحليل مارتن إنديك، الدبلوماسي الأمريكي السابق، الذي اعتبر أن “إسرائيل تحاصر نفسها بخطاب لا يتيح مجالاً للواقعية السياسية؛ فالتشبث بشعار القضاء على حماس يتناقض مع ضرورات السياسة الدولية التي تضغط نحو وقف الحرب” (Indyk, 2024).
د. انعكاس على صورة إسرائيل
هذه المعضلة المزدوجة لا تقتصر على الجانب العسكري، بل تضرب في العمق صورة إسرائيل كدولة قادرة على الحسم. إذ يلاحظ إيلان بابيه أن “استمرار الحرب بلا حسم نهائي يكشف تراجع صورة إسرائيل من دولة منتصرة عسكرياً إلى كيان مأزوم يعيش على هامش الشرعية الدولية” (Pappé, 2024).
⸻
2. قضية المختطفين الكلفة الداخلية وتصدع الجبهة الإسرائيلية
أ. المختطفون كورقة ضغط داخلية
أصبحت قضية المختطفين الإسرائيليين في غزة واحدة من أعقد الملفات وأكثرها حساسية في إدارة الحرب. فبينما تُصرّ الحكومة على شعار “النصر الكامل”، يجد نتنياهو نفسه أمام ضغط متزايد من عائلات المختطفين ومن قطاعات واسعة من الرأي العام تطالب بإعادتهم، ولو على حساب أهداف الحرب. هذا التناقض يُجسد المأزق الداخلي الذي وصفته آنا براسكي بقولها: “المزيج الأخلاقي والعملي يضع نتنياهو بين خيارين فادحي الثمن: إنقاذ المختطفين عبر صفقة جزئية أو المضي في هجوم شامل قد ينتهي بموتهم” (Braschi, 2025).
قضية المختطفين لم تعد مجرد ملف إنساني بل تحولت إلى عامل يهدد استقرار الحكومة الإسرائيلية. حيث تنظم عائلات المختطفين مظاهرات متواصلة في تل أبيب والقدس، مطالبة بإبرام صفقة عاجلة مع المقاومة. وقد أشار عاموس هرئيل في هآرتس إلى أن “كل يوم يمر دون تقدم في ملف الأسرى يفاقم الشرخ بين القيادة السياسية والجمهور، ويُضعف شرعية استمرار الحرب” (Harel, 2024).
2. قضية المختطفين الكلفة الداخلية وتصدع الجبهة الإسرائيلية
ب. معضلة القرار السياسي
• الخيار العسكري: فأي توغل بري واسع يعرّض حياة المختطفين للخطر، وهو ما يُلقي باللوم على الحكومة إذا انتهى الأمر بموتهم.
• الخيار التفاوضي: فأي صفقة تبادل – حتى وإن كانت جزئية – ستُفسَّر كاعتراف ضمني بأن إسرائيل عاجزة عن تحريرهم بالقوة، وهو ما يضرب صورة الردع التي يسعى نتنياهو لترميمها منذ 7 أكتوبر.
وقد وصفت رينا باسيست، الباحثة الإسرائيلية في شؤون المجتمع والسياسة، هذا المأزق بقولها:
“ملف الأسرى يمثل مرآة تعكس الفجوة بين منطق الأمن ومنطق السياسة، وبين اعتبارات الحكومة وصرخات الشارع” (Bassist, 2024).
ج. تأثيرات على الجبهة الداخلية
تحولت قضية الأسرى إلى قضية رأي عام وطنية، حيث يُستخدم الشعار “إعادتهم الآن” كأداة ضغط على الحكومة. ووفق استطلاع أجراه معهد إسرائيل للديمقراطية (2024)، فإن 61% من الإسرائيليين يفضلون إبرام صفقة تبادل جزئية على استمرار العمليات العسكرية المفتوحة.
هذا يُظهر أن شرعية الحرب تتآكل من الداخل، إذ لم تعد إسرائيل قادرة على حشد إجماع وطني خلف أهدافها.
د. انعكاسات استراتيجية
من منظور فلسطيني، يمثل هذا الانقسام فرصة استراتيجية:
• المقاومة استطاعت أن تجعل من قضية المختطفين سلاحاً سياسياً يهدد وحدة القرار الإسرائيلي.
• كلما طال أمد احتجازهم، زادت الضغوط الداخلية على الحكومة، وتعمقت أزمة الشرعية.
• وبذلك، فإن ملف الأسرى لم يعد ورقة إسرائيلية ضد المقاومة، بل أصبح ورقة مقاومة ضد إسرائيل نفسها.
هـ. قراءة نقدية
يتفق هذا الواقع مع تحليلات أورنا مزراحي، الباحثة في معهد دراسات الأمن القومي (INSS)، التي أكدت أن “الحكومة الإسرائيلية تدفع ثمناً داخلياً متزايداً لإصرارها على تجاهل ملف المختطفين، ما يهدد بتفكك الجبهة الداخلية ويقوّض استمرارية الحرب” (Mizrahi, 2024).
3. العزلة الدولية وتآكل الشرعية من الخطاب إلى الإجراءات
مع دوام القتال وتصاعد الكارثة الإنسانية في غزة، تحوّل الموقف الأوروبي من إدانات رمزية إلى إجراءات سياسية واقتصادية ملموسة تهدف إلى معاقبة إدارة الحرب الإسرائيلية وإرسال إشارات ضغط دبلوماسي.
• بلجيكا أعلنت بوضوح نيتها الاعتراف بفلسطين وفرض حزمة من العقوبات كجزء من ردة فعل أوروبية متصاعدة على سياسة إسرائيل في غزة.
• المملكة المتحدة علّقت محادثات اتفاقية التجارة الحرة مع إسرائيل وأعلنت إجراءات عقابية ضد استيطان الضفة، في إشارة مباشرة إلى وجود سقف للتساهل البريطاني تجاه سياسات الحرب الإسرائيلية.
• ألمانيا أوقفت رسمياً صادرات أسلحة قد تُستخدم في غزة، في خطوة رمزية لكنها ذات دلالة سياسية قوية على أن حتى الحلفاء التقليديين صاروا يضعون حدوداً للتعاون العسكري.
على الجانب الأمريكي، بدا الموقف مختلطاً: تصريحات رسمية متبدلة بين رغبة في “حل سريع” وقلق واضح من التبعات طويلة الأمد للحملة على العلاقات الأمريكية–الأوروبية.
بالإضافة إلى ذلك، أدّت مشاهد النزوح الواسع والانتهاكات الإنسانية إلى ردود فعل عاجلة من عواصم عدة، وأعطت زخماً لخطوات عملية ضد إسرائيل على مستوى العلاقات الثنائية والمنظمات الدولية.
خلاصات تفسيرية مختصرة
• التحوّل الأوروبي من الكلام إلى الفعل يغيّر من بيئة المناورة السياسية لإسرائيل: ليس فقط خسائر شعبوية داخلية، بل خسائر دبلوماسية واقتصادية ملموسة.
• تآكل الدعم التقليدي (بريطانيا، ألمانيا) يعرّي الاختلال بين الخطاب الإسرائيلي حول “الشرعية الأمنية” والنتائج الواقعية على الصعيد الدولي.
• الضغط الأمريكي المتغير زمنياً يُجبر إسرائيل على التفكير بإطار سياسي عاجل — صفقة أو تهدئة — قبل أن تتبلور إجراءات أوروبية إضافية تُقلّص من هامشها.
4. الوهم العسكري وخطر التوغل العميق في غزة
أ. تعريف المشكلة ومركزيتها
يقترن الخطاب الإسرائيلي حول “الحسم” بفكرة أن السيطرة المكانية على غزة (أو على مركزها الحضري — غزة المدينة) ستعني عملياً تفكيك القدرات التنظيمية لحماس.
لكن التحليل التاريخي والعملي يُظهر أن الاحتلال أو التوغل العميق في بيئة حضرية مكتظة لن يضمن القضاء على حركة مقاومة متجذرة، بل سيحوّل الصراع إلى حرب شوارع طويلة الأمد تُكلّف مدناً بأكملها ويولّد نتائج إنسانية وسياسية عكسية.
ب. دروس لبنان: التكرار لم يحقق الحسم
تُقدّم الحروب الإسرائيلية في لبنان (الاحتلال 1982 والحرب مع حزب الله 2006) نماذج تحذيرية: الاحتلال أو التدخلات الكبيرة أدّت إلى استنزاف طويل، تعزيز قدرة الخصم على التنظيم تحت الأرض، وتكريس رواية مقاومة شعبية لا تنتهي بانهيار العدو التقليدي.
دراسات عسكرية وسياسية عديدة خلُصت إلى أن إسرائيل لم تستطع عبر هذه التجارب تحقيق “نصر نهائي” بل دخلت في دوامة ردود فعل وعقابيل تكتيكية استغلتها خصومها.
هذا الدرس ينسحب على أي نية لاحتلال أو توغل طويل في غزة، حيث طبيعة التضاريس البشرية والمجتمعية تُسهِّل بقاء شبكة مقاومة بعد أي عملية مادية واسعة.
ج. تكاليف الحرب الحضرية: نزوح، سقوط مدنيين وأزمات إنسانية
التوغل في مدن مكتظة يعني حتماً نزوحاً واسع النطاق، انهيار خدمات أساسية، ومشاهد إنسانية تُولّد تنديداً دولياً يترجم عملياً إلى عزلة دبلوماسية وعقوبات أو تجميد تعاون.
تقارير منظمات إنسانية ووكالات أممية تؤكد أن الحملة على غزة سببت أرقام وفاة وإصابات وتهجيراً هائلين، وأن أي استمرار في عمليات التوسع سيضاعف هذه المآسي ويجعل من تقديم المساعدة أمراً شبه مستحيل.
هذا لا يظل مجرد عِبء إنساني بل يصبح مدخلاً فعّالاً لتقويض الشرعية الدولية لإسرائيل.
د. القصور القانوني: تحذيرات منظمة القانون والإنسانية
المؤسسات القانونية والإنسانية الدولية تُحذّر من أن سياسات الإخلاء القسري أو الطلب من السكان “التحرك” قبل الضربات لا يُعفي من مسؤولية حماية المدنيين.
كما أن افتراض أن من يبقى في المنطقة بعد التحذير هو “مقاتل” افتراض خطير يُخالف مبادئ التمييز والتناسب في القانون الدولي الإنساني.
مثل هذه الخروقات تُكرّس دعاوى انتهاكات قد تؤدي إلى إجراءات دولية لاحقة.
هـ. الجانب العسكري: محدودية المكاسب الاستراتيجية
التقديرات العسكرية الإسرائيلية نفسها تشير إلى أن العمليات ستستغرق “أشهرًا” وربما تُفضي إلى وضعية حكم عسكري دون خطة واضحة لما بعد ذلك — أي أن الاحتلال المؤقت قد يتحوّل إلى التزام طويل يُكلّف الدولة أكثر مما يفيدها.
كما أن تحييد بنية حماس الميدانية لا يعني بالضرورة إنهاء مشروعها السياسي والاجتماعي، الذي يتغذى من شبكات مجتمعية وتضامن شعبي يصعب تفكيكه بالقوة وحدها.
حركة مقاومة أثبتت قدرتها على البقاء والتكيّف خلال سنوات من المواجهة، وحتماً ستستخدم احتلال المدن كرافعة لزيادة الدعم الدولي ضد إسرائيل.
و. العواقب السياسية: منحاور التآكل الدولي
كل يوم تستمر فيه عمليات واسعة في غزة يعمّق بدوره تآكل الدعم الأوروبي ويحوّل مواقف بعض العواصم من كلام إلى إجراءات (تعليق محادثات، تجميد تعاون، إعلان اعترافات بالدولة الفلسطينية، عقوبات جزئية).
هذا المسار يعني أن الكلفة السياسية للاحتلال ستتنامى بسرعة: ما يُخسر هنا من نفوذ وشراكات ليس من السهل استعادته لاحقاً.
بالتالي، حتى إن كَسبت إسرائيل مكاسب ميدانية محدودة عبر احتلال انتقائي، فإنها ستدفع ثمناً دبلوماسياً طويل الأمد قد يغيّر حسابات الأمن القومي أكثر مما يحققها الاحتلال ميدانياً.
ز. خلاصة المحور: لماذا هو وهم؟
بناءً على الدروس التاريخية، الأدلة الإنسانية، والإشارات القانونية والسياسية المعاصرة، يصبح واضحًا أن الطموح إلى “حسم” عسكري سريع عبر توغل عميق في غزة هو على أقل تقدير مخاطرة استراتيجية عالية.
ليس فقط لأن النتيجة العسكرية غير مضمونة، بل لأن الكلفة الإنسانية والدبلوماسية والسياسية المرتفعة من شأنها أن تقلب أي نصر تكتيكي إلى خسارة استراتيجية بعيدة المدى.
5. نتنياهو والزمن: أزمة القيادة وركوب أمواج الوقت
تُظهر قراءةٍ متقاطعة للخطاب الرسمي والتقارير الدبلوماسية أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يحاول إدارة أزمة ذات أبعاد زمنية متعددة:
• ضغط داخلي (عائلات المختطفين والرأي العام).
• ضغوط أميركية (حث على إنجاز سياسي سريع).
• ضغوط أوروبية متصاعدة قد تتحول إلى إجراءات عقابية وعزلة دبلوماسية مؤثرة.
هذه الضغوط مجتمعة تُنتج «زمنًا مضغوطًا» يجعل من منطق كسب الوقت — الذي اعتمد عليه نتنياهو تاريخياً — استراتيجية محفوفة بالمخاطر بدل أن تكون ميزة.
أولاً
هناك تناقض منهجي بين خطاب نتنياهو الذي يروّج لإمكانية “الحسم” السريع من جهة، وبين حسابات الجهاز العسكري التي تصف عمليات ممكنة بأشهر ومدن قد تخضع لحكم عسكري مؤقت.
هذا التباين يضعف التصور العام عن قدرة الدولة على وضع خارطة طريق سياسية–عسكرية متماسكة، ويحوّل القرار إلى رهينة توازنات داخلية وحزبية.
تقارير عدة أشارت إلى أن إدارة البيت الأبيض تضغط على تل أبيب لتسجيل إنجاز سياسي سريع (وقبل أن تتبلور خطوات أوروبية أوسع)، وهو ما يزيد من تعقيد القرار لدى نتنياهو.
ثانياً
الزمن السياسي يعمل ضد نتنياهو على مستوى العلاقات الخارجية:
إعلان دول أوروبية أو إشاراتها نحو الاعتراف بفلسطين أو فرض خطوات عقابية (مثل قرار بلجيكا الأخير) يقلّص هامش المناورة ويضع على طاولة الحكومة تكلفة دبلوماسية سريعة ودائمة.
عند تفاقم هذه الديناميكية، يتحوّل رهان «أسبوع آخر» أو «خطاب آخر» إلى مخاطرة استراتيجية قد تُفضي إلى فقدان قواعد دعم دولية طويلة الأمد.
ثالثاً
من زاوية داخلية–شعبية، يستنزف تزايد الضغط على ملف المختطفين ثقة الجمهور في قدرة القيادة على حماية المواطن وإرجاع المختطفين، ما يجعل الاستناد إلى رواية الحرب الطويلة أقل فاعلية في تعبئة الشارع.
هذا التفكك الداخلي يجعل من أي قرار لاحق — سواء كان تدهورًا عسكريًا أو تسوية جزئية — مكلفاً سياسياً لنتنياهو.
النتائج العملية
الزمن ليس مجرد متغير تقني بل ساحة معركة سياسية استراتيجية تُقيّم فيها القيادة على أساس نتائج فورية ومؤثرة.
خلاصة المحور
زمن نتنياهو بدأ يتحوّل من مورد سياسي إلى عبء استراتيجي.
كسب الوقت لم يعد يضمن إنهاء الأزمة بل قد يسرّع من عملية العزلة الدولية وتآكل الشرعية الداخلية، ما يجعل رهانه على «الانتصار الكامل لاحقاً» استراتيجية عالية المخاطر وغير مضمونة النتائج.
6. الانعكاسات الفلسطينية والتوصيات: خارطة عمل دبلوماسية–عامة لاستثمار المأزق الإسرائيلي
أ. انعكاسات استراتيجية فورية (خلاصة تحليلية)
1. تسارع العزلة الإسرائيلية = فرصة دبلوماسية: تحوّل الموقف الأوروبي (تعليق محادثات، وقف صادرات أسلحة، اعترافات محتملة) يخلق نافذة لتدويل القضية الفلسطينية وإعادة صياغة موازنات القوة السياسية في المحافل الأوروبية والدولية.
2. قضية المختطفين تُضعف التماسك الداخلي الإسرائيلي: هذا شرخ يجب أن يُستثمر سياسياً ودبلوماسياً دون استحضار روايات انتقامية، بل عبر استراتيجيات قانونية وإنسانية تزيد من ضغط العزلة على الحكومة.
3. الزخم الإعلامي والإنساني مفتاح لتغيير المعادلات: صور المعاناة والبيانات الحقوقية تتحول إلى أدلة سياسية تُستخدم لفرض خيارات أوروبية وأممية على إسرائيل.
ب. توصيات عملية وفورية للفريق الفلسطيني (دبلوماسي — إعلامي — قانوني)
1) خارطة دبلوماسية مضبوطة (السياسة الرسمية)
• التوجّه المكثف إلى العواصم الأوروبية الأساسية (باريس، بروكسل، برلين، لندن) بصيغ متدرجة: أولاً ملفات إنسانية وقانونية مدعومة بشواهد ميدانية، ثم طلبات واضحة للاعتراف المشروط (حسب تسلسل بلجيكا وفرنسا) بهدف خلق زخم سياسي منسّق.
• استثمار التصدعات في التحالفات الغربية: العمل مع برلمانيين، بلديات، ونخب مدنية أوروبية للضغط على حكوماتهم لاتخاذ خطوات عملية (تجميد اتفاقات، قيود تجارية على منتجات المستوطنات، وقف صادرات عسكرية محتملة).
2) استراتيجية إعلامية متقدمة (التأثير على الرأي العام الدولي)
• حملات تدويل الحقائق: مواد موثقة وقصص إنسانية مركّزة (حالات أسر، شهادات طبية، أدلة على حرمان الخدمات) تُقدَّم بلغة مؤثرة، قابلة للنشر الفوري عبر صحافة استقصائية وشركاء حقوقيين دوليين.
• استهداف جمهور الأوساط السياسية الأوروبية عبر نشر تقارير موجزة باللغات الوطنية لكل دولة (فرنسا، ألمانيا، بلجيكا، إسبانيا، المملكة المتحدة) مع نقاط ضغط محددة—مثلاً: كيف ترتبط اتفاقيات التجارة أو التعاون العسكري بسلوك إسرائيل في غزة؟
3) خطة قانونية مدعّمة بالأدلة (الضغط القضائي الدولي)
• تحضير ملفات موثقة لعرضها على آليات حقوق الإنسان الدولية (لجنة حقوق الإنسان، محاكم دولية متاحة) بالتعاون مع منظمات حقوقية دولية موثوقة، مع إبراز انتهاكات محددة وفقاً للقانون الدولي الإنساني.
• توجيه دعاوى مدنية وسياسية في المحافل الأوروبية ضد أفراد أو كيانات (مثل مقترحات حظر سفر وقيود مالية) طالما تُوجد أدلة. هذه الإجراءات ليست بديلاً عن السياسة لكنها تضيف طبقة ضغط قانوني فعّال.
4) تكتيكات تفاوضية وسياسية (على طاولة المفاوضات)
• الموافقة على مبادئ إنسانية مرحلية قابلة للتفاوض (ممرات إنسانية، صفقة تبادل مشروطة، آليات مراقبة دولية لوقف النار) مع ضمان آليات تحقق دولية لتقليل احتمالات التلاعب الإسرائيلي بالنتائج.
• الحفاظ على مرونة تفاوضية تكتيكية: لا تقبل الصفقات التي تُضعف شرعية الموقف الفلسطيني طويل الأمد أو تُلغي حقوقاً أساسية (القدس، العودة، الحدود).
5) استراتيجيات داخلية لبناء خطابٍ مقاوم ودبلوماسي متوازن
• توحيد الخطاب: إبراز البُعد الإنساني والقانوني أولاً، ثم السياسي، مع تجنّب الانزلاق إلى خطابٍ يستفز الأوروبيين أو يعطي ذريعة لتعزيز تيارات التطرف المناهضة لنا.
• إنشاء حزمة رسائل جاهزة للرد السريع على أي حملة مضادة إسرائيلية، مع مركز رقمي ينسق البيانات والأدلة والمواد الإعلامية.
ج. خاتمة تنفيذية سريعة
المرحلة الحالية هي لحظة قوة سياسية ممكنة للمشروع الفلسطيني إذا ما أحسن استثمارها: الزمن الذي يضغط على نتنياهو هو نفسه زمن فرصة للضغط الدبلوماسي، القانوني، والإعلامي. إن إدارة هذه الفرصة تتطلب مزيجاً من الواقعية السياسية، الحنكة الدبلوماسية، ووحدة الخطاب الوطني. المقاومة صنعت ظرفاً دولياً—فليكن الاستثمار السياسي والفكري في هذا الظرف بمستوى الحدث.
مراجع الورقة البحثية
• Belgium to recognise Palestinian state at UN General Assembly, impose sanctions on Israel. Al Jazeera. (2025, Sept 2).
• UK suspends trade talks with Israel over new Gaza offensive. Reuters. (2025, May 20).
• Germany halts military exports to Israel for use in Gaza. AP News. (2025, Aug).
• Netanyahu comes to U.S. amid potential inflection point in the Middle East. USIP. (2025, Feb).
• Trump is telling Israel ‘time is right’ for Gaza deal — Newsweek. (2025).
• Growing list of EU states to recognise Palestine, fearing Israeli ‘genocide’. EUobserver. (2025).
• Times of Israel; The President’s News Conference; The Guardian; AP — (مختلف تقارير 2025 حول إجراءات أوروبية/بريطانية/ألمانية المذكورة أعلاه).