الإغاثة المُفخخة: من الطحين إلى التوابيت… حين تتحوّل المساعدات إلى مصائد دموية
26 Jun 2025

في مشهد يتكرر حتى أصبح جزءً من يوميات غزة المنكوبة، يقف الفلسطينيون في طوابير طويلة تحتالشمس أو القصف، لا لشيء سوى انتظار كيس طحين أو علبة طعام،لكن الانتظار هنا لا يعني الحياة، بليعني وقوف على حافة الموت، فمع كل شاحنة إغاثة، هناك قناص، وطائرة، واحتمال انفجار.

أكثر من 500 شهيداً ارتقوا حتى الآن وهم يرفعون بطاقات المساعدات لا الرايات، ويحملون أوعية الماءوالطعام لا السلاح، هؤلاء لم يُقتلوا في المعارك، بل قُتلوا في صفوف الحياة، قُتلوا لأنهم صدّقوا أن هناكمن سيُطعمهم دون أن يُنهيهم، تحوّلت المساعدات شيئاً فشيئاً إلى نظام قتل ببطاقة غذاء، حيث يتمركزالاحتلال على أبواب الحاجة، ويوزّع الموت بدل المعونة، إننا أمام مشهد جديد من مشاهد الهندسةالدموية للإغاثة، حيث يُعاد تعريف الضحية لا كمقاوم، بل كمنتظر لطبق عدس.

في غزة، لم يعد الطابور مكاناً للانتظار، بل صار ممراً إلى المقبرة، عشرات الشهداء ارتقوا لا لأنهم حملواسلاحاً أو صرخوا بشعار، بل لأنهم اصطفّوا للحصول على كيس طحين أو علبة فاصوليا، ومع كل مجزرةأمام نقطة توزيعيتضح أن الأمر لا يتعلق بخطأ ميداني أو اشتباك عرضي، بل بسياسة ثابتة تُمارس بعقلبارد وإرادة عنيفة، واللافت أن هذه السياسة تُنفّذ بصمت دولي، بل وبتواطؤ ناعم تُغلفه رواية الارتباك أوالزحام، وكأن الحياة الفلسطينية بلا قيمة إذا وقفتَ في الطابور، وهذا الطابور الذي يفترض أن يكونطريقاً إلى البقاء، تحوّل إلى ممرّ اغتيال جماعي مُنظّم، هو شكل جديد من الإبادة الذي يُستخدم فيهالجوع والانتظار،إنه الإعدام على مراحل، بالوجبة المؤجلة، والرصاصة المحتملة، والموعد الذي لا يعودمنه أحد، وهذه ليست أخطاء، بل هندسة قتل عبر الطابور، والسكوت عنها هو مساهمة في شرعنةالموت بالجوع، فالاصطفاف للمعونة صار في غزة مشهد مقاومة لا يقلّ عن الخندق، لأنه بات فعل تحدٍّللحصار، ومواجهة مع الاحتلال المُقنّع بغطاء الغذاء.

في غزة تطوّر شكل الإبادة ليصبح أكثر خُبثاً وهدوءً، وصار الخبز هو الفخ والسلة الغذائية هي المدخلإلى مربع الموت،نحن أمام نموذج غير مسبوق من السيطرة، من "الإغاثة المُفخخة"، حيث يُحكم الخناقعلى المدنيين تحت غطاء المعونة، فتجويع الناس لم يعد هدفاً بحد ذاته، بل صار وسيلة لإخضاعالجغرافيا، ولتحويل الحاجات الأساسية إلى نقاط ضغط استراتيجية، ومن خلال إدارة المساعداتيُعادترتيب المشهد السكاني، وكأن لقمة العيش أصبحت تصريح مرور أو ربما تذكرة موت مؤجل.

لا تحتاج غزة اليوم إلى خيال لتصنع مأساتها، فالمشهد مكتملكرتونة غذاء على الأرض مُلطخة بالدم،طفل يصرخ على جسد أبيه الذي خرج صباحاً بحثاً عن كيس طحين، وامرأة تحتضن حقيبة المساعداتوقد اخترق الرصاص ظهرها، هذه لقطات حقيقية من مواقع المجازر التي تحيط بمراكز توزيعالمساعدات، والكاميرات لا تكذبوجوه مذعورة، أجساد ممزقة، أطفال يُسحبون من بين الركام،وصرخات تختلط بأسماء الشهداء، مشاهد متكررة على أطراف كل نقطة إغاثة، وكأن القتل بات مرفقاًإلزامياً فيكل نقطة توزيع، إن ما يحدث لا يمكن وصفه سوى بأنه جريمة تحت لافتة الرحمة، حيث تتحوّلنقاط المساعدات إلى حقول دم مفتوحة، يزرع فيها الاحتلال رصاصه بلا هوادة، ويجني منها الفوضىوالتهجير.

هذه اللقطات التي تُبثّ من تحت الشمس الحارقة أو في ساعات الفجر الأولى، يجب ألا تمر كأخبار عابرة،هي ذاكرة بصرية جماعية للمذبحة المُقنّعة، يجب أرشفتها، وتعليقها على صدر كل من يتحدث عنتحسين الوصول الإنساني، إنها ليست مجرد مشاهد مؤلمة، بل وثائق اتهام ضد نظام يوزّع الموت ببطاقةغذاء، وضد عالمٍ يرى ولا يتحرك، وإنّ تسليط الضوء على هذه اللحظات بكل قسوتها ودموعها، هو فيجوهره فعل مقاومة، وصياغة لخطاب جديدالإغاثة إن لم تكن آمنة، فهي قتل معلّب بلغة الرحمة.

المعونة القاتلة لا تترك خلفها فقط قتلى، بل تُعيد تشكيل وعي الناسهل يجب أن أموت جوعاً أم أنأركض نحو نقطة توزيع وأغامر بأن أُقتل هناك؟ هذا الخيار القاتل هو بحد ذاته شكل من أشكال التصفيةالنفسية والسياسية، حيث لا تعود الحياة قراراً ذاتياً، بل لعبة مرسومة بين بندقية ومعونة، هذا بالضبطما يمكن تسميته بالهندسة الإغاثيةالتي يكون في ظاهرها مجرد مساعدات، وفي باطنها خطة لإعادةتنظيم السكان، وتوزيع الإغاثة في غزة لم يعد مجرد استجابة طارئة لحاجة إنسانية، بل صار جزءً منمنظومة أوسع يمكن تسميتها بـ "الهندسة الإغاثية الدموية"، حيث يتم استخدام الرغيف كأداةجيوسياسية، وتتمركز المساعدات في نقاط معينة وبشروط أمنية صارمة، ومع غياب تام للتوزيعالمتوازن، يُجبر السكان على التحرك من مناطقهم الأصلية إلى مناطق محددة سلفاً، هذه ليست عمليةلوجستية، بل خطة مدروسة لإعادة تشكيل الحضور البشري في القطاع، ويصبح الغذاء ليس فقط حاجةبل خريطة، ويُعاد إنتاج الجغرافيا السياسية للنجاة وفقاً لشروط الاحتلال.

وفي ظل غياب الضمانات، يتحوّل انتقال الناس إلى مناطق توزيع المساعدات إلى نزوح طوعي قسري،يتكرّس بمرور الوقت على أنه واقع دائم، وهو ما يُعد أخطر أشكال التهجير، لأنه يتم بهدوء وبلا لجوء، فيغياب الرصاص وبحضور شاحنة إغاثة، إنها ليست مجرد قافلة شاحناتتمر، بل خارطة سكانية جديدةتُرسَم بالطحين ويتم تمريرها بغطاء دولي، بينما يُغلق العالم عينيه عن حقيقة أن المعونة أصبحتسلاحاً لإعادة ترسيم الأرض والناس.

في معركة السرد، يكون الصمت خيانة والكلمة جبهة، ومايجري في غزة اليوم ليس فقط قصفاً ممنهجاًللبيوت، بل محاولة موازية لقصف الحقيقة، ولإعادة تشكيل الوعي الجمعي بما يُناسب الجلاد، وفي ظلهذا تتحول مهمة توثيق المجازر إلى ما هو أكبر من مجرد تسجيل للضحايا؛ إنها عملية استرداد للمعنى،وإعادة تعريف للمساعدة التي أصبحت أداة ناعمة من أدوات القمع، حيث أنّ الصور التي تخرج من نقاطالتوزيع، الشهادات التي تسجلها الكاميرات المرتجفة، الأطفال الذين يتحدثون عن الطحين والرصاص فيجملة واحدة، كل هذا يشكّل مادة حية لصياغة ما يمكن تسميته بـالسردية المقاومة، إنها السردية التي لاتكتفي بوصف الحدث بل تُعرّي خلفياته، وتفكّك بنيته، وتربط بين الطحين وبين فوهة البندقية.

في مواجهة الرواية الصهيونية التي تصف الضحايا بـالأضرار الجانبية، يُصبح واجب الإعلام المقاوم ليسفقط الرد، بل نزع الغلاف الإنساني الزائف عن الجريمة، وكشف منظومة الإغاثة القاتلة التي تم تصميمهالتنتج القتل لا النجاة، والتي تُدار بدقة سياسية لا رحمة فيها، وهنا فإنّ السردية المقاومة لا تتوقف عندالتوثيق، بل تصر على العدالة، تعيد تعريف المعونة، وتطرح الأسئلة المحرّمةمن يموّل هذا الشكل منالإبادة؟ من يصمت عن مشاهد القتل عند طوابير الطعام؟ من يغطي بالجغرافيا السياسية ما لا يمكنتبريره إنسانياً؟ ولنعلم أنّ كسر الصمت ليس ترفاًإعلامياً، بل هو جدار صدّ أخير في وجه آلة تُريد أن تقتلالفلسطيني مرتينمرة بالرصاص، ومرة بالنسيان.

حين تصبح نقاط توزيع المساعدات ساحات للإعدام، ويغدو الطحين محفوفاً بالموت، تصبح إعادة النظرفي المنظومة أمراً لا يحتمل التأجيل، ما يجري في غزة ليس خللاً في التنفيذ، بل خللاً في التصوّر الإنسانيذاته، حيث تحوّلت المساعدات من أداة للنجاة إلى آلية لإعادة إنتاج الإبادة، فلا يمكن أن يُبنى أي مشروعإغاثي على مشاهد يجرّ فيها طفل ساقي أبيه الشهيد خارج نقطة توزيع، أو على لقطات نساء يصرخنفوق أكياس طحين اختلطت بالدم،وأي استمرار في هذا النموذج هو قبول ضمني بـمجزرة يومية صامتة،لهذا.. يجب أن يكون الحديث عن المنظومة البديلة للنجاة محور كل نقاش إنساني وسياسي قادم.

منظومة لا تعتمد على إذن عسكري ولا على خريطة حددها الاحتلال، بل على مبادئ القانون الإنسانيالدولي، وعلى إشراف دولي نزيه وشفاف، يُجرد "إسرائيلمن صلاحية إدارة الجوع كسلاح، ويُنقذالمدنيين من المقايضة الدموية بين الرغيف والرغبة بالبقاء، فتدويل الإشراف على الإغاثةوتوزيعهابآليات شفافة وآمنة هو بداية استعادة الحد الأدنى من الكرامة في زمن تُستباح فيه حتى طوابيرالمحتاجين، نحتاج إلى ممرات لا تُنصب فيها الكمائن، وإلى مساعدات لا تحمل توقيع القناص، وإلىشاحنات لا تتقدم إلا بعد أن يُؤمّن الظهير الأخلاقي والسياسي والإنساني لها.

لقد فُضح المشهد، كرتونة الطعام التي كانت تُقدَّم كدليل على الرحمة، انكشفت على حقيقتهاعبوةموت مغطاة بالإنسانية، والمساعدات لم تكن مجرّد استجابة عاجلة، بل جزء من شبكة تحكم تمتد منالسياسة إلى السلاح، ومن الخريطة إلى الطابور.

إن الصمت على هذا النموذج هو شراكة ضمنية في القتل،والسكوت عن نزيف المذابح أمام مراكز التوزيعهو التطبيع الكامل مع فكرة أن الفقير لا يحق له النجاة إلا بشروط قاتله.

سيبقى صوت الشعب الفلسطيني هو الكاشف الأهم لكل هذه التزييفات، ويبقى التوثيق، والإعلام،والعدسة، والكلمة الحرة كلها جبهات مقاومة لا تقلّ عن خندق الصاروخ، وفي زمن الإبادة ببطاقة الغذاء،يجب أن نعيد تعريف النجاة، وأن نقولها بوضوحالمعونة التي تمرّ على جثة ليست نجدة، بل جريمةمكتملة الأركان.