تشغل غزة موقعاً استراتيجياً على ضفاف شرق البحر المتوسط، حيث تختزل في أعماقها إمكانات ضخمة تم طمسها عمداً عن إدراك العالم. إلى جانب قيمتها التاريخية والإنسانية، حيث تحتضن مياهها الإقليمية حقل "غزة مارين"، الذي تشير تقديرات Encyclopaedia Britannica إلى احتوائه على ما يقارب 32 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي. ورغم مرور أكثر من عقدين على اكتشافه، لا يزال الحقل رهيناً للتجميد السياسي والصراعات الإقليمية وسط تجاهل دولي متعمد لفرصه التنموية الهائلة. في ظل اكتشافات لاحتياطات كبيرة يتم التعتيم عليها، حيث أرسلت الولايات المتحدة الأمريكية سبعة شركات دولية للتنقيب مطلع العام المنصرم وفي ظل العدوان المتواصل على غزة ومحافظاتها.
بينما تشير الدراسات إلى أن استغلال هذه الاحتياطات يمكن أن يسهم في تلبية جزء كبير من احتياجات الطاقة الأوروبية لعقود طويلة، فضلاً عن تمكين الفلسطينيين من الدخول في شراكات تجارية متوازنة مع القوى العالمية مثل: الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. غير أن هذا السيناريو يتطلب إعادة النظر في الروايات التقليدية التي حبست غزة في إطار نمطي مشوّه إما كعنصر أيديولوجي أو كعبء أمني دائم، وهي في واقعها نقطة مركزية يمكن أن تصبح جسراً للتواصل بدلاً من أن تكون ساحة للصراع.
في هذا السياق، تبرز أهمية المبادرة إلى تعزيز التفاعل المباشر مع مجتمع غزة والقيادة المحلية هناك عبر إرسال وفود سياسية وإعلامية رفيعة المستوى إلى محافظات فلسطين الجنوبية (غزة). الهدف يتمثل في الاطلاع على الأوضاع الحقيقية بعيدًا عن الخطابات المنمطة والتغطيات المبتورة، إذ يتميز سكان غزة برغم معاناتهم بوعي عميق ومستوى متقدم من التعليم، إضافة إلى انفتاحهم على الشراكات الدولية القائمة على الاحترام المتبادل والتنمية المستدامة. ولن يسمحوا بتجاوزهم عبر بروبغندا ممنهجة تهدف لتضليل العالم وبسط الهيمنة بتوظيف موارد القوة الغير واعية في غير محلّها.
وبرأي نخب من الباحثين والساسة فإن تفكيك الحواجز النفسية والسياسية بين غزة والعالم لن يكون في مصلحة الفلسطينيين فحسب، بل سيعود بالنفع على أمن واستقرار الإقليم والعالم برمته. فإن دراسة وفهم غزة كجزء جوهري من فلسطين المحتلة، وتمتلك مقومات مادية وبشرية نوعية تُمكّن من صياغة سياسة دولية أكثر عدالة، وتفسح المجال للإعلام والنخب العالمية لكشف الحقائق بعيدًا عن التضليل المتعمد الذي أخفى الجوانب الإنسانية والتنموية لهذه المنطقة لفترات طويلة.
وبالتالي إن التحدي الحقيقي اليوم يتمثل ليس فقط في تصحيح الرواية السائدة حول غزة، وإنما أيضًا في دفع النخب السياسية في المستويين الرسمي والغير رسمي، وكذلك الوسائل الإعلامية والمؤسسات البحثية نحو الالتزام بواقعية ومهنية أكبر في تقديم مقاربة وصورة دقيقة عن الواقع الغزي.
*لقد حان الوقت لاستبدال الإسقاطات السلبية بالتواصل البناء، واستبدال التهميش بالشراكة المبنية على المصالح المشتركة.*
وفي زمن تُهيمن فيه المعلومات المغلوطة، تقع مسؤولية كبيرة على عاتق النخب السياسية والإعلامية لتقديم الحقائق كما هي، وليس كما يُراد لها أن تبدو. فإن غزة ليست تهديدًا، بل فرصة واعدة، والاعتراف بهذه الحقيقة يمثل الخطوة الأولى نحو بناء شرق أوسط جديد أكثر إنصافًا واستقرارًا وإنسانية.




