تحليل سياسي نقدي بعنوان: (الغباء والجبن في استراتيجية نتنياهو: "القوة كساتر للفشل الأمني والسياسي").
21 Jun 2025

في خضم الصراعات السياسية والاجتماعية والعسكرية، كثيرًا ما يتم التركيز على موازين القوة، التحالفات، والموارد، بينما يتم إغفال العوامل النفسية والسلوكية التي تؤثر على القرارات المصيرية. من بين هذه العوامل، يظهر (الغباء والجبن) كعنصرين غالبًا ما يُشار إليهما بازدراء، دون تحليل موضوعي لدورهما في عرقلة الحسم، وإطالة أمد المعاناة، بل وأحيانًا في تكريس الهزيمة. فما العلاقة بين الغباء والجبن؟ وكيف يتداخلان في لحظات اتخاذ القرار الحاسم؟ وهل يمكن تفكيك هذا الثنائي الخطير لفهم آليات الفشل في إدارة الصراع من قبل حكومة الاحتلال بقيادة نتنياهو واليمين المتطرف؟ وما الذي يتوجب على الشعب الفلسطيني فعله؟


إنّ الغباء ليس مجرد انخفاض في معدل الذكاء، بل هو أحيانًا تعبير عن عجز منهجي في تحليل الواقع، وفهم العلاقات السببية، واستشراف النتائج. في إدارة الصراعات، يظهر الغباء من خلال:


الركون إلى حلول سطحية مثال: *تحويل أصل الصراع السياسي لمشكلة إنسانية مصطنعة،* في ظل تعقيد الأزمة عبر توسعة المواجهة وتأجيج الصراع وتظهير القوة المفرطة بهدف إعادة هندسة الاحتلال وشكل الهيمنة، ومن ثم تسكين الصراع لعقود قادمة. 


تكرار التجارب الفاشلة دون مراجعة تاريخ الصراعات في المنطقة وتحديداً في غزة وإيران كون أنه لم يسبق لاحتلال مرّ من غزّة استطاع اقتلاع شعبها، كما أنّ إيران التي خاضت حرباً أمام العراق حين كانت مدعومة أمريكياً طيلة ثمان سنوات متواصلة لم تثني الشعب الإيراني، والغريب أن نتنياهو يصرح أن حربه على إيران ستحسم في أسابيع وهو في نفس الوقت عالق في غزة قرابة عامين ولم يحقق بعد أي من أهدافه فكيف بدولة مثل إيران؟!.

  

سوء تقدير العدو أو الحليف والاعتقاد بأن الخصم لا يملك أدوات الردع، والحليف لا يمكنه التخلي عن دوره بالمطلق وهو ما يعكسه واقع الميدان في ميادين المواجهة.


*أؤكد هنا على مسألة العجز عن التعلم من التجارب التاريخية لأهميتها.*


وبناءً على ما سبق ذكره؛ يبرز 

غباء القيادة السياسية بشكل عام في لحظات الصراع مما قد يؤدي إلى خيارات كارثية، كالدخول في مواجهة دون استعداد، أو انتظار حل خارجي دون خطة بديلة، أو الانقياد الأعمى وراء شعارات شعبوية لا تصمد أمام تعقيدات الواقع، وكل ذلك وقعت فيه إسرائيل بقيادة اليمين المتطرف.


أما على صعيد الجبن، فهو لا يتعلق فقط بالخوف الطبيعي، بل يتمثل في انعدام الجرأة الأخلاقية والسياسية على اتخاذ القرار الحاسم بالاعتراف بحقيقة الفشل والذهاب لمفاوضات جدّية تفضي لحلول سياسية جوهرية عادلة ودائمة ، حتى لو كان ذلك مكلفًا في البداية. ومن مظاهره في سياق الصراعات:


تضخيم خطر العدو والتقليل من الإمكانيات الذاتية بهدف استجلاب التعاطف والدعم الخارجي واستعادة صورة الضحية التي حافظت عليها الحكومات المتعاقبة في "اسرائيل" بعدما أصبحت الصورة الذهنية عالمياً عن دولة الاحتلال أنها قاتلة أطفال سادية تمارس التطهير العرقي بحق المواطنين الأصليين في فلسطين. بينما يهرب نتنياهو ومنظومته للأمام بتوسيع رقعة الحرب دون رؤية واضحة لما ستؤول إليه تلك الحرب.


و بالتالي؛ إنه ومع ذروة التصعيد العسكري المستمر الذي تقوده "إسرائيل" في كل من غزة ولبنان وسوريا، وتزايد التوتر مع عدوانها السافر على إيران، يبرز رئيس وزراء الكيان "نتنياهو" بوصفه الشخص الأكثر إثارة للجدل في المشهد السياسي "الإسرائيلي" منذ عقود.


ورغم اعتباره من أكثر الساسة الصهاينة في القدرة على المناورة والنجاة من الأزمات الداخلية، إلا أن الأداء الاستراتيجي لحكومته وجيشه يكشف عن نمط مركب من الغباء السياسي والجبن الأخلاقي، تُغطى ملامحهما بخطاب القوة والردع. 


فما الذي يخفيه هذا "المهزوز العنيد" من القرارات العسكرية؟ وما طبيعة العلاقة بين هذا النمط الحاكم وأزمات الصراع المتفاقم، قد يبرز ذلك في سلوكه ما بين من يصفون ذلك السلوك بـ "الدهاء التكتيكي" وبين آخرين يصفونه "بالغباء الإستراتيجي"؟


وهنا يمكن القول؛ أن "نتنياهو" ليس سياسيًا ساذجًا. بل على العكس، هو يتقن غالباً اللعب على التناقضات الداخلية والخارجية. لكن ما يصح وصفه بـ"الغباء" في حالته، هو القصور في إدراكه حدود القوة والفشل عندما يخفي فشله الذريع في غزة وكذلك فشله في التعتيم على جرائم جيشه وانهيار نظرية الأمن الاستراتيجي لدى مؤسساته المُترَفة بفعل الدعم الأمريكي والغربي طوال عقود مضت، والتي فشلت فشلاً مدوّياً لا يمكن تعويضه حين صاروا أمام لحظة الحقيقة التي كانوا يخشونها، وبدوره كذلك أظهر فشل الرهان عليهم كمنظومة وظيفية في الإقليم في حين بدت هزيلة فاقدة الردع والهيبة رغم امتلاك الدعم والقوة.

 

وهذا ما عبّر عنه تكرّر التصعيد مع غزة وفتح جبهات متزامنة (غزة – لبنان – إيران) دون رؤية استراتيجية طويلة الأمد لما بعد التصعيد. ويكأن خصوم "إسرائيل" لا يملكون أوراق ردع.


وقد وصف بعض المحللين الغربيين هذا السلوك بأنه "انفصال عن الواقع الاستراتيجي" نتيجة تضخم الذات السياسية.


بينما رأس تلك المنظومة "نتنياهو" يدعم بموازاة ذلك تفتيت السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وتكرار ديباجة النصر المطلق وتقويض حـ.ماس في غزة بلا ملل دون أن يقدّم بديلًا سياسيًا عنهما، أو حتى تحقيق هذين الهدفين.


كما أنه في المقابل يعادي القوى الإقليمية مثل: إيران، باكستان، تركيا، مصر، سورية، لبنان ويستعدي المجتمع الدولي، والمؤسسات والمحاكم الدولية والإسرائيلية، بينما يعتمد فقط على مظلة الإدارة الأمريكية التي تتراجع تدريجيًا مع مرور الوقت كونها تضع مصالحها أولاً وتبني رؤاها على النتائج.


إن ذلك يعبّر بالضرورة عن غباء ناتج عن عقلية قصيرة النفس والنظر، حينما تعتبر أن الحل يكمن في التهديدات و"الضرب ثم الضرب"، دون إدراك أن الزمن لم يعد لصالح هذا النموذج الفاشي.


ومن جانب آخر يبرز "الجبن السياسي والأخلاقي" المغلّف بخطاب الرّدع، الرّدع الذي فقدته منظومته الوظيفية بلا عودة.


*"الجبن السياسي والأخلاقي" الذي أشرت إليه يشمل شخص نتنياهو ومنظومته بشقيها الأمني والسياسي الجبن الذي يتمثل في:*


الهروب للأمام بإشعالهم مزيداً من الحروب، بدلاً من الإقرار بالفشل والاعتراف بحقيقة ما لحق بكيانهم مبتعدين عن الحلول السياسية بعد ما مُنيَت به تلك المنظومة من فشل ذريع خوفًا من غضب المستوطنين وقادة اليمين المتطرف.


 وبدوره يتجلّى جُبنُ "نتنياهو" ونظامه الوظيفي ومن خلفهم الداعمين في مستوى التردد بشأن الاعتراف بالحقوق الفلسطينية والعربية رغم معرفتهم جميعاً أنّ العالم يتغير وأنه هذه الحقيقة ستتجلى طال الزمن أم قصُر، وإلاّ لما ذكر "نتنياهو" نفسه في كتابه المعروف (مكان تحت الشمس) أنه يحاول جاهداً الإبقاء على دولته لتكمل عمر المئة عام في إشارة إلى عقدة العقد الثامن التي تؤرق منام الكثيرين في كيانه.


وفي نفس السياق؛ يبرز ذلك الجبن في عجز نتنياهو عن طرح حل جذري للصراع خوفًا من فقدان السلطة أو تحطيم ائتلافه الهش.


فإنّه يُفضّل خوض حرب شاملة على غزة بدلًا من مفاوضة طرف فلسطيني موحد. 


كما يُفضل قصف إيران بالوكالة بدلًا من بناء سياسة إقليمية عقلانية. وهذه هي فعلاً سِمَة القيادات الجبانة سياسيًا: تُخيف، لكنها لا تجرؤ على اتخاذ القرارات التاريخية.


وبالتالي؛ يجدر القول بأنّ اتخاذ "نتنياهو" من القوة كساتر للخلل البنيوي الذي لحق بكل أركان دولته المفككة أمراً بات لا يختلف عليه إثنان. في حين تُستخدم القوة المفرطة في سياسة نتنياهو كغطاء:


أولاً: لتأجيل الانتخابات أو كسب دعم داخلي.


ثانياً: لإخفاء الفشل في الملفات الاقتصادية والاجتماعية.


ثالثاً: لتصدير أزمات الائتلاف الحكومي نحو "خطر خارجي مصطنع".


علماً أنه يعلم جيدًا أن "الإسرائيلي" العادي لا يشعر بالأمن مطلقاً، ولا يراهن على قيادة حكومته الحالية كونها تكذب عليه، في حين أن "نتنياهو" يعلم أن الحرب لم تعد تحسم شيئًا، لكن التلويح المستمر بـ"التهديد الوجودي" يسمح له بالبقاء في المشهد، ولو على حساب المصلحة العامة.


وبالتالي *أتصور أنّ النتائج العكسية لسياسة الغباء والجبن لن تنتج أمنًا، بل ستؤدي إلى :*


مزيد من وحدة خصوم "إسرائيل" (محور المقـ.اومة، الدعم الدولي للفلسطينيين، التعاطف الشعبي العالمي).


انهيار صورة الردع "الإسرائيلي" بشكل مدوّي بعد كل معركة طويلة دون حسم.


تآكل داخلي في ثقة "الإسرائيليين" بالحكومة 

والجيش.


صعود تيارات أكثر تطرفًا وفوضوية داخل الكيان.


ومع مرور الوقت، تتآكل "أسطورة الردع"، ويغدو العنف أداة استنزاف لا تفوق.


وهنا لابد من التساؤل *هل هناك بديل لدى نتنياهو عن خطة الهروب للأمام؟ وهل هناك فرصة لديه للتراجع؟*


ربما نعم، لكن بشرط:


إذا ما استبدل "نتنياهو" طواعية أو تحت الضغط الداخلي قيادة الحكومة الحالية بأخرى تقوم على الحسابات الباردة والتوازنات المعقدة بدلًا من القيادة التي تراهن على "الضرب ثم التفاوض".


اقتناعه بأن القوة لن تضمن الأمن الدائم ما لم تكن جزءًا من رؤية سياسية تنهي الصراع بعدالة.


تخلّصه من الجبن الأخلاقي الذي يجعله يخشى الاعتراف بالحقوق الفلسطينية، واستبداله بشجاعة الاعتراف بالحقوق فإن كان خياراً صعباً فهو أفضل لشعبه والمنطقة من الحروب السهلة.


وعليه فإنني *لا أتوقع تلك الجرأة من "نتنياهو"* وقد يوافقني الرأي الكثيرين ولكنه بذلك قد لا يكون غبيًا بالمعنى الضيق، لكنه بدون أدنى شك يكرر أخطاءً استراتيجية غبية بثمن باهظ، ويمارس جبنًا سياسيًا مغطى بعنف عسكري ممجوج. وهذا النمط ليس فقط خطرًا على الفلسطينيين والعرب وشعوب المنطقة، بل أيضًا على مستقبل دولته المهزوزة نفسها، التي بدأت تخسر حلفاءها تدريجيًا، وتعيش داخل وهم القوة، بدلًا من رؤية الحقيقة كما هي، وأعتقد أنّ هذا الخطر لن يكون بعيداً عن داعميه ومشجعيه على ذلك بل التأثر غالباً ما سيكون مرعباً إذا ما مُني نتنياهو ومنظومته بالفشل وهو المتوقع في ظل إدارة الصراع بتلك العقلية الخائفة الغبية.


وفي النهاية، ما لم تكشف النخب "الإسرائيلية" والفلسطينية والإقليمية والدولية هذا النمط وتُعرّيه، وتعلي صوت العدالة التي تنادي بتقرير مصير الشعب الفلسطيني الغير مشروط، فإن المنطقة والعالم سيظلان يدفعان ثمن قرارات تتخذها عقول خائفة... وغبية لن تجلب للبشرية جمعاء بما فيهم اليهود حول العالم وداعميهم سوى الخراب والفوضى والعنف العابر للدول.


وهنا لا بد من التنبيه على أنه يتوجب فهم أن هناك علاقة تبادلية بين الغباء والجبن السياسي حين يجتمع الغباء بالجبن السياسي بفعل الضغوطات وزيادة المشهد تعقيداً، تنشأ حلقة مفرغة من العجز السياسي والأخلاقي:


الغبي، يرى ضرورة المواجهة لكنه لا يدرك أبعادها.

والجبان، وإن أدركها، يسعى لمن يخلّصه من تبعاتها خشية من الخسارة.


كما أنّ الغبي، قد يبرر جبنه بخطاب "التحدي"، رغم أنه لا يملك أدوات الحسم.


والجبان، قد يوظف الغباء السياسي لإقناع الناس أن "مواصلة المواجهة حكمة".


بذلك يشكل الاثنان معاً (الجبن والغباء) عائقًا مزدوجًا أمام الحسم: 


*الغباء يعطل الرؤية، والجبن يعطل القدرة على الحسم.*