ملخص تنفيذي
يحلل هذا البحث البنية الاستخباراتية–المعرفية للحرب النفسية الإسرائيلية كما تجلّت في ذروتها خلال عملية "مركبات جدعون"، التي تُعَدّ نموذجًا متقدّمًا لدمج الذكاء الاصطناعي والعمليات السيبرانية في التأثير على الوعي الجمعي الفلسطيني. يتتبّع البحث تطور أدوات الحرب النفسية من "كيّ الوعي" في الانتفاضة الثانية إلى تأسيس مركز Malat وتفعيل قدرات وحدة 8200، ويشرح كيف تُجمَع البيانات من مصادر متعددة (SIGINT، OSINT، HUMINT)، ثم تُعالَج باستخدام تقنيات تحليل المشاعر والنمذجة الإدراكية لصياغة حملات دعائية موجهة ومُتزامنة مع العمليات العسكرية.
كما يقدّم البحث إطارًا نظريًا بديلًا يتمثّل في مفهوم "المناعة المعرفية–الاجتماعية"، باعتباره أداة لفهم آليات اختراق الوعي المقاوم، ووسيلة لبناء استراتيجية فلسطينية مضادة تستند إلى تحصين الوعي، التشويش المعرفي المضاد، والتحشيد الدولي لمساءلة استخدام القوة السيبرانية ضد المدنيين.
تخلص الدراسة إلى أن "مركبات جدعون" ليست مجرد تسمية عملياتية، بل تعبير عن تحوّل نوعي في بنية الحرب النفسية الإسرائيلية، ما يستوجب نقلة مقابلة في أدوات المواجهة الفلسطينية من الدفاع الإعلامي إلى الهجوم المعرفي المنظّم.
🔹 Abstract:
This study analyzes the intelligence–cognitive architecture of Israeli psychological warfare, as epitomized by the recent “Gideon’s Chariots” operation. The operation represents a qualitative leap in Israel’s use of artificial intelligence and cyber-operations to influence Palestinian collective consciousness. Tracing the evolution of these tactics from the “consciousness reprogramming” campaigns of the Second Intifada to the establishment of the Malat Center and the activation of Unit 8200, the research outlines how data is gathered (via SIGINT, OSINT, HUMINT), processed through advanced sentiment analysis and cognitive mapping, and deployed in targeted propaganda campaigns that are synchronized with kinetic military actions.
The paper proposes an alternative theoretical framework—“Cognitive–Social Resilience”—as both an analytical lens and a strategic foundation for countering epistemic disruption. It argues for a Palestinian response that moves beyond traditional media defense toward a cognitive offensive, incorporating awareness inoculation, counter-disinformation operations, and international mobilization to expose the use of cyber-force against civilian populations.
The study concludes that “Gideon’s Chariots” is more than a military code name—it embodies a structural shift in Israeli psychological warfare, one that demands an equally strategic and organized Palestinian response rooted in resilient cognition and proactive information deterrence.
المقدمة
تُعَدُّ العمليات النفسية عنصرًا حاسمًا في الفعل العسكري الإسرائيلي منذ أوائل الألفية، حيث أُنشِئت وحدة Malat في ختام الانتفاضة الثانية لتنسيق ميداني بين قوى الميدان وأنشطة الحرب النفسية ([1]) وقد أبرزت عملية “Cast Lead” في 2008–2009 هذا التوجه بوضوح حين دمجت Malat خططها الدعائية مع الخطط القتالية للمرة الأولى.
يرتكز البحث على سؤال رئيس "كيف تُدار دورة الحرب النفسية الإسرائيلية بشكل استخباراتي وعملياتي متكامل، وما آليات مواجهةٍ ثورية لمعالجة الآثار النفسية والاجتماعية على المجتمع الفلسطيني؟
1. الإطار النظري: "المناعة المعرفية–الاجتماعية" كأداة لفهم الحرب النفسية ومواجهتها
تقوم الحرب النفسية الإسرائيلية الحديثة على استهداف الوعي الجمعي الفلسطيني، لا عبر القوة الصلبة فحسب، بل من خلال هندسة الإدراك وتفكيك الروابط الاجتماعية عبر وسائل تقنية ومعرفية متقدمة. استجابةً لذلك، يطوّر هذا البحث إطارًا نظريًا بديلًا يدمج بين علم النفس المعرفي ونظرية رأس المال الاجتماعي، يُطلق عليه:
المناعة المعرفية–الاجتماعية" (Cognitive–Social Resilience).
المفهوم والتعريف:
· المناعة المعرفية–الاجتماعية:
هي قدرة الأفراد والمجتمعات على كشف التضليل وتحييده معرفيًا، مع الحفاظ على الروابط الاجتماعية والهوية الجمعية التي تمنع تفكيك البنية النفسية للمجتمع المستهدف بالحرب النفسية.
تشمل هذه المناعة بعدين رئيسيين:
ü المناعة المعرفية: قدرة الفرد على التمييز بين المعلومات الصادقة والمضلّلة، وبناء "فلتر إدراكي" ضد التأثير الخارجي.
ü المناعة الاجتماعية: شبكة العلاقات والرموز والقيم التي تشكّل دعامة للتماسك النفسي والجمعي، وتُضعف أثر الدعاية العدوانية على المجتمع.
· الجذور النظرية:
ü نظرية الإدراك الاجتماعي (Social Cognition Theory) – ألبرت باندورا:
تؤكد أن السلوك البشري يتأثر بالإدراك المتعلّم من البيئة، مما يجعل التحكم بالمعلومة مدخلًا للتحكم بالسلوك والمواقف.
ü نظرية الحرب المعرفية (Cognitive Warfare) – تطبيقات عسكرية حديثة:
ترى أن السيطرة على القرار الجمعي تمر عبر استهداف العقل، باستخدام أدوات تحليل البيانات، الذكاء الاصطناعي، وصياغة الرواية (Narrative Framing).
ü نظرية رأس المال الاجتماعي (Social Capital) – بيير بورديو وروبرت بوتنام:
تشير إلى أن الروابط الاجتماعية، والثقة، والقيم المشتركة تُمثّل حصانة ضد التصدع الداخلي، وهي جزء من مقاومة الحرب النفسية.
كلما تعززت المناعة المعرفية–الاجتماعية داخل المجتمع الفلسطيني، تراجعت فعالية الحرب النفسية الإسرائيلية، وانخفضت قدرة العدو على إحداث اختراق إدراكي–سلوكي في صفوف الجمهور المدني والمقاوم.
2. عملية "مركبات جدعون": التجسيد الأحدث للحرب النفسية الإسرائيلية
تُمثّل عملية "مركبات جدعون" (Gideon’s Chariots) الامتداد الأكثر تطورًا في بنية الحرب النفسية الإسرائيلية، إذ تكشف عن انتقال نوعي من الحملات النفسية الكلاسيكية إلى عمليات معرفية–تقنية هجينة تُدار عبر تنسيق عالٍ بين وحدة 8200، مركز Malat، وشعبة الاستخبارات العسكرية (Aman). جاءت التسمية ذات حمولة توراتية مقصودة، تزرع بُعدًا أسطوريًّا في الوعي الجمعي عن "الاجتياح السماوي"، وهو ما يعكس أحد تقنيات التأطير الرمزي لإنتاج مشهد هيبة وردع نفسي.
تتميّز "مركبات جدعون" بخصائص مركّبة تجعلها منصة اختبار لدمج الذكاء الاصطناعي في هندسة الإدراك الفلسطيني، ويمكن تلخيص أبرز ملامحها في:
1. نموذج استخباراتي–تشغيلي تفاعلي: تعتمد العملية على جمع آني متعدد المصادر (SIGINT، OSINT، HUMINT) يعاد تحليله خلال العمليات العسكرية لتغذية الخطاب الإعلامي، بينما تُستخدم أدوات تحليل مشاعر متقدمة لاختيار نغمة الرسائل حسب المزاج الجمعي في كل منطقة مستهدفة.
2. هندسة الخوف والتضليل المدروس: نُشرت خلال العملية مقاطع مفبركة توحي بانهيارات داخلية في المقاومة، أو صور مفخخة تُظهر نازحين وهم يستجدون العدو، ضمن خطة تكسير الروح المعنوية بالتوازي مع القصف الجوي.
3. استهداف الرموز والسرديات: سعت الحملة إلى إعادة تأطير رموز المقاومة والبطولة الفلسطينية بتقنيات "نزع الشرعية الرمزية"، عبر منصات اجتماعية وحملات إعلانية موجّهة (targeted ads) باللغتين العربية والإنجليزية.
4. آليات تغذية راجعة متقدمة: تُقاس فاعلية الرسائل في الزمن الحقيقي من خلال أدوات تتبع تفاعل الجمهور، وتُعدَّل الخطة الدعائية كل ست ساعات بناءً على مؤشرات "خضوع أو مقاومة" الجمهور الرقمي.
بهذا المعنى، تشكل "مركبات جدعون" نقلة نوعية من البروباغندا إلى "العمليات المعرفية" (Cognitive Operations)، وهو ما يستدعي تطوير مواجهة فلسطينية تتجاوز الدفاع الإعلامي التقليدي، إلى مواجهة معرفية هجومية تشتبك مع تقنيات العدو وتحول أدواته إلى مصادر ارتداد عليه.
٣. آليات الحرب النفسية الإسرائيلية
٣.١ جمع المعلومات (Collection)
1. الاعتراض التقني (SIGINT/COMINT): تنفّذ وحدة 8200 اعتراض الاتصالات الصوتية والرقمية عبر محطات رصد أرضية وأقمار اصطناعية لتجميع ملايين الرسائل والمحادثات الفلسطينية.
2. المصادر المفتوحة (OSINT): يستخدم العدوّ أدوات زحف إلكتروني (Web Crawlers) لتحليل منشورات التواصل الاجتماعي واستخلاص نماذج السلوك والاتجاهات العامة ([2]).
3. المصادر البشرية (HUMINT): توزّع أجهزة الاستخبارات فرَقًا بشرية داخل المخيمات والأحياء لجمع الشائعات والنقاشات اليومية، وتستغلّ تحقيقات الأسرى لتكريس المعلومات الميدانية ([3]).
٣.٢ المعالجة والتحليل (Processing & Analysis)
1. التصفية والترشيح: تُزال بيانات “الضوضاء” ويُحتفظ بما يتصل بكلمات مفتاحية استراتيجية (مثل “تعبئة شعبية”) باستخدام خوارزميات متخصصة ([4]).
2. التحليل الدلالي والنفسي: تُوظَّف تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل المشاعر (Sentiment Analysis) وكشف نبرة الخوف أو الغضب في المحادثات واعتماد النماذج اللغوية المبنية على بيانات اعترضتها 8200([5]).
3. التخطيط المسبق: تُنسَج “خرائط وعي” تحدد الفئات الأكثر تفاعلًا مع رسائل معينة، وتُرصد “مناطق الضعف” في الروح المعنوية بهدف استهدافها بحملات دعائية.
٣.٣ صياغة الاستراتيجية المعلوماتية (MISO)
- التشويش (Jamming): إغراق الفضاء الإعلامي بخبر زائف وتضخيم الأحداث السلبية لخلق حالة ارتباك ([6]).
- التضليل (Deception): نشر معلومات كاذبة عن تراجع المقاومة أو صراعات داخلية لتهييء الأرضية لهجرة المواطنين على أنها “حرب أهلية ([7]).
- التأطير (Framing): إعادة صياغة أي انتصار فلسطيني بعبارات تشكك في شرعيته وأهدافه.
٣.٤ التنفيذ الميداني والمتابعة (Execution & Feedback)
- فرق IST: تقيس أثر الحملات إعلاميًّا وميدانيًّا بواسطة استطلاعات وزيارات مفاجئة، وتعدّل الخطاب آنِيًّا وفق التغذية الراجعة.
- التنسيق مع الضربات: يختار مركز الأركان توقيت القصف لتحريك المشاعر إلى ذروة الذعر، ما يضاعف تأثير الحرب النفسية ([8]).
٤. استراتيجية مواجهة ثورية
1. تحصين الوعي داخليًّا: حملات توعية ومجتمعية تكشف أساليب الاعتراض والتحليل الاستخباري.
2. التشويش المضاد: نشر معلومات مضادة مستقاة من مصادر فلسطينية موثوقة.
3. التحشيد والدبلوماسية الدولية: تقديم تقارير أكاديمية وإنسانية إلى الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان لفضح تجنيد التكنولوجيا الفائقة لشن حرب نفسية على المدنيين.
٥. الخاتمة
إنّ الإدارة الإسرائيلية للدورة الاستخباراتية–العملياتية للحرب النفسية تُظهر مدى تطور الرؤية القتالية لتشمل الأبعاد المعرفية والاجتماعية وفي المقابل، لا يَكفي الصمود العسكري دون مناعة معرفية–اجتماعية قادرة على تفكيك أدوات التضليل والتمويه، وتحويل مواجهة المعلومات من دفاع إلى هجوم ذكي يُستعاد فيه زمام المبادرة علميًا وعَمَليًّا.
المراجع
1) Al-Haq. (2009). Operation Cast Lead: A Statistical Analysis. Al-Haq.
2) ETH Zurich. (2019). Trend Analysis: The Israeli Unit 8200 – An OSINT‑based study. Center for Security Studies.
3) INSS. (2019). Ya’alon, M. (ret.). The Cognitive War as an Element of National Security. Institute for National Security Studies.
4) JSTOR. (2022). Israeli Defense Forces’ Information Operations 2006–2014. JSTOR.
5) SpringerLink. (2014). Psychological Warfare in Operation “Cast Lead”. In Winning Hearts and Minds. Palgrave Macmillan.
6) The Guardian. (2025, March 6). Revealed: Israeli military creating ChatGPT‑like tool using vast collection of Palestinian surveillance data. The Guardian.
7) Wikipedia. (2024). Unit 8200. Retrieved from https://en.wikipedia.org/wiki/Unit_8200
8) Ynetnews. (2023, October 15). Entering the mind of the other side using psychological warfare. Ynetnews.
[1] - Psychological Warfare in Operation “Cast Lead”
[2] - Center for Security Studies.
[4] - Israeli Defense Forces’ Information Operations 2006 - 2014, Part 1
[6] - Unit 8200: Israel’s Information Warfare Unit
[7] - مقال يدعوت احرونوت Entering the mind of the other side using psychological warfare
[8] - جريدة هارتس IDF Reviving Psychological Warfare Unit



