معهد فلسطين للدراسات الاستراتيجية
مقدمة
بعد المشاهد والصور المأساوية لأطفال غزة الذين يواجهون مجاعة اصطنعتها حكومة نتنياهو المتطرفة لتحقيق أهداف سياسية؛ والتي باتت تتصدر كبرى الصحف العالمية وانتشرت كالهشيم في مواقع التواصل الاجتماعي؛ وما نتج عنها من تنامي الغضب الشعبي؛ وانكشاف الصورة الحقيقية للإجرام الإسرائيلي أمام العالم، اضطرت حكومة نتنياهو لاتخاذ قرار التراجع وتغيير الاتجاه في محاولة لامتصاص الغضب العالمي المتصاعد ضد الاحتلال.
لقد تحولت استراتيجية التجويع الممنهجة لأهالي غزة من أداة بيد الاحتلال إلى سيف بيد المقاومة، تُديره هي، وتُراكم عبره إنجازات سياسية ومعنوية؛ وفي هذا التحليل نسلط الضوء على هذه الاستراتيجية ومآلاتها السياسية.
أولاً: جوهر الاستراتيجية الإسرائيلية
التجويع كسلاح سياسي
منذ الأسابيع الأولى للحرب، تبنّت حكومة الاحتلال سياسة التجويع الممنهج ضد سكان قطاع غزة، كأداة رئيسية في إدارة المعركة، وبهدف تحقيق مكاسب تفاوضية واستراتيجية، من بينها:
• الضغط على المقاومة لتقديم تنازلات في ملف صفقة الأسرى.
• دفع السكان المدنيين إلى التمرد الداخلي أو الهجرة الجماعية جنوبًا.
• فرض واقع إنساني كارثي يُستخدم لاحقًا كورقة مقايضة في المحافل الدولية.
لكن هذه السياسة لم تؤتِ أُكُلها، بل انقلبت إلى كارثة استراتيجية فاقمت عزلة العدو، وشكّلت ضده ضغطًا داخليًا وخارجيًا غير مسبوق.
ثانياً: فشل الاستراتيجية مؤشرات السقوط
1. الضغط الدولي غير المسبوق
• دول G7 (فرنسا، بريطانيا، ألمانيا…) حذّرت من انهيار أخلاقي شامل في صورة "إسرائيل".
• الأمم المتحدة ومنظمات أممية كاليونيسيف وبرنامج الأغذية العالمي اتهمت إسرائيل بتصنيع المجاعة عمدًا.
• المحكمة الجنائية الدولية فتحت تحقيقًا رسميًا بتهمة ارتكاب جريمة حرب عبر “التجويع المتعمّد”.
2. تآكل مكانة الحكومة الإسرائيلية
• اتساع الفجوة بين حكومة نتنياهو والرأي العام الغربي.
• اتهامات إسرائيلية داخلية بأن الحكومة تستخدم الغذاء كسلاح سياسي، مما أدى لتآكل شرعية استمرار الحرب.
3. خطر الموت الجماعي
• تقارير أممية حذرت من خطر المجاعة الحاد الذي يُهدد حياة أكثر من 300,000 إنسان، خاصة في شمال القطاع.
• صور الأطفال والمرضى الباحثين عن لقمة خبز أو رشفة ماء تسببت في موجة غضب عالمي غير مسبوقة.
4. تحول في الرأي العام الدولي
• تصاعد الحديث العلني في أوروبا، أميركا اللاتينية، وأفريقيا عن الحق الفلسطيني غير القابل للتصرف في دولة مستقلة.
• ارتفاع منسوب مطالبات الاعتراف بدولة فلسطين كخيار نهائي، يتجاوز المعادلات التفاوضية الكلاسيكية.
ثالثاً: سيف ذو حدّين
التجويع كآلية فاشلة للمقايضة السياسية
في معادلة “الكرامة مقابل الرغيف”، راهنت "إسرائيل" على انهيار الصمود الشعبي تحت وطأة التجويع. لكن النتائج جاءت معاكسة:
• المجتمع الفلسطيني أثبت صلابة فريدة، ولم ينكسر رغم الكارثة.
• قيادة المقاومة رفضت تقديم أي تنازل سياسي أو تفاوضي تحت الضغط الإنساني.
• موقف المقاومة بقي ثابتاً
لا صفقة دون وقف شامل للحرب وانسحاب كامل.
وهكذا، تحوّلت ورقة التجويع إلى خطر استراتيجي يهدد وجود" إسرائيل" السياسي والدبلوماسي:
• استمرار التجويع يعني فتح الباب لتدخل دولي مباشر – سياسي وربما ميداني.
• وإن استمرت المماطلة، ستُحمَّل" إسرائيل" مسؤولية قانونية وأخلاقية مباشرة عن جريمة إبادة جماعية.
رابعاً: الدافع السياسي للانقلاب
استدراك متأخر
قرار العدو بالبدء بإنزال المساعدات الجوية، وتخصيص ممرات إنسانية، لا يعكس تغيرًا في المبدأ، بل:
• استجابة قسرية لضغوط دولية متصاعدة.
• محاولة التفاف وتجميل سياسي على وقع فضيحة استخدام “المجاعة كسلاح”.
• مسعى لإعادة ترميم صورة الحكومة أمام الرأي العام الإسرائيلي والدولي، بعد فشل الرهان على كسر المقاومة عبر تجويع شعبها.
خاتمة واستشراف
إنّ ما أرادته “إسرائيل” كورقة ضغط استراتيجية عبر سياسة التجويع الممنهج، ارتدّ عليها كوصمة عار أخلاقية وقانونية ودبلوماسية. فقد كشف هذا المسار الوحشي الوجه الحقيقي للمشروع الصهيوني العاري من كل ادّعاء إنساني، إذ لم يتورع عن استخدام سلاح الجوع ضد الأطفال والمرضى والمحرومين، ظنًّا أن معادلة “الكرامة مقابل الرغيف” قد تفضي إلى كسر صمود الفلسطينيين. غير أن النتائج جاءت صادمة للعدو: لم ينهزم المجتمع الفلسطيني رغم الكارثة، ولم تُكسر المقاومة رغم القيد، بل ارتفعت كلفة الاحتلال، واهتزت شرعيته، وتزايدت عزلته.
وهكذا، تحوّلت ورقة التجويع من أداة ابتزاز سياسي إلى عبء استراتيجي يهدد وجود “إسرائيل” السياسي والدولي، ويضعها أمام مفترق طرق خطير بين استمرار الجريمة أو الاعتراف بهزيمة أدواتها.
وفي ضوء هذا الانكشاف، تبرز جملة من التوصيات الضرورية لمسار ما بعد سقوط ورقة التجويع:
1. تحويل الجريمة إلى قضية عالمية: يجب العمل على توثيق سياسة التجويع كجريمة إبادة، وتقديمها في محاكم دولية، بما يُحصّن الرواية الفلسطينية ويفضح ممارسات الاحتلال.
2. توسيع خطاب المقاومة الأخلاقية: عبر تعزيز صورة المقاومة كفاعل إنساني يحمي مجتمعه، ويصمد باسم الكرامة، لا مجرد فصيل عسكري. هذا الخطاب بات يُحرج الرواية الصهيونية حتى في عقر دارها الغربية.
3. استثمار اللحظة السياسية عالميًا: في ظل تغير المزاج الدولي، يجب الانفتاح على دول الجنوب، وتحشيد الحركات التضامنية، واستغلال الزخم لطرح الاعتراف بدولة فلسطين كحق أصيل لا كنتاج تفاوض.
4. الإسراع في تشكيل جبهة وطنية موحدة: الصمود البطولي في غزة فرصة لإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني على قاعدة المقاومة ووحدة الميدان، بعيدًا عن الحسابات الفئوية.
5. رصد محاولات التفاف العدو: إذ سيحاول الاحتلال تجميل صورته عبر إجراءات شكلية، كفتح المعابر أو توزيع مساعدات، لذا وجب فضح هذه المحاولات ورفض مقايضة الدم بالخبز.
6. مراكمة القوة الناعمة للمقاومة: بما يشمل بناء رواية إعلامية متماسكة، وتفعيل أدوات القانون الدولي، وتوسيع الحضور السياسي والدبلوماسي للمقاومة خارج الميدان العسكري.
في المجمل، لقد سقطت سياسة التجويع، ولم يسقط الشعب، وتهاوت أوراق الضغط، وبقيت الكرامة الفلسطينية هي الرهان الرابح. لقد آن أوان الانتقال من موقع الدفاع إلى موقع المبادرة، ومن سردية الضحية إلى موقع الفاعل التاريخي، فالمعركة اليوم لم تعد فقط على الخبز، بل على المعنى، وعلى الحق، وعلى المستقبل





