مدخل الوعي المتحوّل
عند حواف المدى، حيث تُصنع القرارات لا على الورق، بل في داخل الخلايا العصبية لجماعات اعتادت الاستعلاء، بدأ الصدع. لم يكن الصوت عاليًا في البدء، بل خافتًا، كارتجاف إلكترون يتحرك بين مدارين بفعل طاقة مفاجئة. وفي قلب هذه الطاقة، كانت هناك فكرة تهرب من قبضة النظام: "الجيش لا يُطيع". لم تكن العبارة صرخة، بل همسًا تسلل إلى البنية التحتية لإدراك من يسمون أنفسهم "إسرائيليين"، وأحدث فيها اهتزازًا لا يُرى بالعين، بل يُشعر كارتجاف بين الحلق والحنجرة.
ما بدأ كرسالة موقعة من حفنة من الطيارين، أصبح موجة تحمل في ذبذباتها معنى جديدًا: لم تعد السلطة تتحكم في الكتلة الصلبة، لأن هذه الكتلة لم تعد صلبة أصلًا. وشيئًا فشيئًا، بدأ نظام "إسرائيل" يرى صورته تتكسر في مرآة جنوده. هناك، حيث كان يزرع الطاعة، نما الشك. وهناك، حيث كانت الهندسة النفسية تبني سردية "الجيش الأخلاقي"، انكسرت المعادلة.
الفصل الأول: تشظّي الداخل تحت ضغط الإدراك المتنامي
انزلاق البنية من التماسك إلى التوتر
في المختبرات التي كانت تصنع الصورة النمطية للجندي النموذجي في "إسرائيل"، بدأت البيانات تتغيّر. لم تعد الروح المعنوية مستقرة. لم يعد الخطاب موحدًا. الصمت لم يعد علامة رضا، بل أصبح مساحة تختمر فيها الانكشاف العميق . والتوقيعات التي بدأت كأرقام على ورق، كانت في الحقيقة انعكاسات لدوائر كهربائية بدأت تفقد تزامنها مع المركز.
الرسالة التي حررها جنود الجو، والتي تلَتها عرائض من وحدات أخرى، لم تكن احتجاجًا. كانت بداية انحلال الصيغة التي تمكّن الكيان من إنتاج طاعته. فجأة، لم تعد الهيكلية العسكرية أداة مركزية، بل أصبحت عبئًا على مشروع لا يعيش إلا في حالات الطوارئ.
انحدار الكفاءة كمؤشر على فوضى كامنة
القرار باستبعاد الجنود الموقّعين من العمليات لم يكن سوى محاولة لتثبيت صورة مهددة بالاختفاء. لكن ما فشل القادة في إدراكه هو أن الكفاءة لم تكن أبدًا ميكانيكية، بل كانت تتغذى على معنى. وعندما يتلاشى المعنى، تصبح أكثر التقنيات تطورًا مجرّد هياكل بلا فاعلية.
وهنا علينا أن نُعيد التأكيد: لا يوجد شيء اسمه "مواطن إسرائيلي". من يُسمّون كذلك هم مستوطنون، بلا جذور تاريخية، بلا ذاكرة جمعية، وبلا وطنية. انتماؤهم الوحيد هو للمشروع الصهيوني، المشروع الذي منحهم شرعية مصطنعة لا تستند إلى تاريخ، بل إلى سطو منظم على أرضٍ وُجدت قبلهم بآلاف السنين.
الفصل الثاني: ما وراء غلاف الجغرافيا — الارتداد الفلسطيني
تحوّلات غير مرئية في ساحة يدّعي العالم أنها مفهومة
غزة، التي حاولوا دائمًا اختزالها في معادلات عسكرية، كشفت في لحظة الانفجار أنها ليست مجرد مساحة جغرافية. بل وحدة إدراك تنبض خارج النظام. هناك، كان المحاصَر يصوغ فلسفة جديدة للمواجهة: فلسفة تنكر المسلمات، وتحوّل الضعف إلى نواة طاقة.
المقاومة لم تنتظر انقسام "إسرائيل" كي تتحرّك. بل ساهمت في تشكيله، كما تفعل الجاذبية بين جسيمات غريبة في بُعد آخر. فهمت أن المعركة ليست في الميدان فقط، بل في عقل المستوطن. في الشك الذي يتسرّب إلى ثقته بنفسه. في الفجوة التي تتسع بين الجندي ومشروعه الاستيطاني. وفي تلك اللحظة، بدأت المقاومة لا في استغلال التصدعات، بل في صناعتها.
الفصل الثالث: نهاية زمن المحور الواحد
تحوّلات في مدارات القوى الكبرى
في أروقة السلطة العالمية، بدأت المعادلات تتغير. لم تعد المصالح تمر عبر "تل أبيب". أصبحت الحسابات أكثر تعقيدًا، تتضمن الصين، وروسيا، وتوازنات ناشئة في الجنوب العالمي. قرارات "واشنطن"، التي كانت تُصاغ كأنها قوانين طبيعية، أصبحت محكومة باعتبارات داخلية وخارجية لا تخضع كما كانت للمستوطنين في "إسرائيل".
التحالفات لم تختفِ، لكنها خضعت لإعادة ترميز. العداء لإيران لم يعد مشتركًا، والرغبة في الانخراط في حروب بالوكالة أصبحت أقل إغراءً. النظام العالمي الذي كان يُملي قراراته باسم الديمقراطية، صار الآن يطلب من حلفائه تقديم تبريرات لبقائه.
الفصل الرابع: الوعي الجديد — من المقاومة إلى صياغة المستقبل
تحرّر الإدراك من احتكار التفسير
ما يحدث اليوم في عقل المستوطن ليس مجرد ارتباك أمام مقاومة مفاجئة. بل هو اهتزاز في بُنية الإدراك الجماعي لمشروع صهيوني بأكمله. لقد كان هذا المشروع يحكم من خلال وضوح فكرته عن نفسه. والآن، تتكسر هذه الفكرة. الجنود أنفسهم لم يعودوا يرون المعنى. وهذا ما يجعلهم يتمردون ليس ضد القيادة فقط، "بل ضد كل ما تم تلقينه لهم كحقيقة لا جدال فيها
فلسطين — من الجغرافيا إلى الحتمية الرمزية
ما تُنجزه فلسطين اليوم ليس مجرد مقاومة. بل إعادة بناء رمز جديد للحرية، يتجاوز القومية، ويتخطى الأيديولوجيا. أصبحت فلسطين مرآة يرى فيها العالم هشاشة أنظمته، وانحطاط خطابه، وتناقض مبادئه.
الخاتمة: نهاية المعادلة القديمة، وبداية عصر غير مرئي بعد
إن ما يجري اليوم ليس أزمة حكومة في "إسرائيل"، بل إعلان نهاية معادلة صُنعت لعقود. المعادلة التي كانت تقوم على تفوّق عسكري، دعم مطلق، وصمت دولي، انهارت فجأة. والأهم، أن انهيارها لم يكن نتيجة ضربة قاصمة، بل نتيجة اهتزاز داخلي في بنية المعنى.
في الزمان الجديد، لم تعد الجغرافيا قدرًا، ولم تعد القوة شرطًا للنصر. بل صار الوعي نفسه هو الميدان. ومع كل جندي يرفض القتال، وكل صوت يخرج من تحت الأنقاض، يتشكّل زمن مختلف. زمن لا تحكمه القنابل، بل الأفكار. لا تسيطر عليه الدبابات، بل الرؤية.
ومع تغير هذا الزمن، لا تسقط فقط حكومات، بل تُولد شعوب. وتنهض فلسطين — لا كضحية — بل كقوة تُعيد للعالم توازنه.














