لم يكن السابع من أكتوبر مجرد يوم في سجلّ المواجهة الفلسطينية، بل لحظة انبثاق جديدة في مسار التاريخ الوطني. جاء “طوفان الأقصى” كردّ طبيعي على تراكم سنوات من الاحتلال والحصار، وعلى خيانات التطبيع التي شرّعت وجود العدو في قلب النسيج العربي، وجعلت من فكرة التعايش مع الاحتلال مشروعًا مألوفًا لدى البعض. الفلسطيني المحاصر، الذي صار وجوده التاريخي مقيدًا بين الجغرافيا والمصالح الإقليمية والدولية، رفض الخنوع، وأعلن بوضوح أن المقاومة ليست خيارًا بل ضرورة، وأن الحرية لا تُستجدى، بل تُنتزع عبر الفعل المباشر وإعادة تعريف الصراع وفق ميزان القوة الواقعي، لا مجرد الوهم الدبلوماسي.
*جذور الفعل المقاوم*
الطوفان لم ينطلق من فراغ عاطفي، بل من تراكم وعي استراتيجي. لقد بلغ الفلسطيني حدًّا من الإحباط التاريخي، ناتج عن سياسات الإبادة المستمرة، وعن محاولات محو ذاكرة الشعب، وعن صمت أو تواطؤ القوى العربية الرسمية التي اختارت التطبيع على حساب فلسطين. هنا، خرجت المقاومة لتعطي جوابًا صارمًا وواضحًا: الوجود الفلسطيني على هذه الأرض حقّ لا يمكن تجاهله، والمقاومة ليست فعلًا ردّيًا عشوائيًا، بل خيارًا استراتيجيًا يحفظ الأرض والهوية والكرامة.
هذه اللحظة، وإن كانت جزءًا من مسلسل طويل من المواجهات، حملت بداخلها قيمة رمزية عظيمة: إنها إعادة قراءة المعادلة، ليس على مستوى الأرض فحسب، بل على مستوى الوعي الجمعي العربي والعالمي. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن الطوفان هو استعادة للكرامة الجماعية وللسرد التاريخي الفلسطيني، بعد عقود من محاولة تهميش الشعب الفلسطيني وتسييس وجوده على أنه مجرد “حاضر مشروط” داخل حدود الاحتلال.
*الأهداف الاستراتيجية التحرير والوعي*
لم يكن الهدف من العملية مجرد كسر الحصار أو تسجيل انتصار ميداني محدود. لقد حمل الطوفان أهدافًا أوسع وأعمق: أولها إعادة صياغة الوعي الفلسطيني، ليشعر كل فرد من غزة إلى الداخل المحتل أن قدره مرتبط بالمقاومة وأن الفعل ممكن وواقعي. ثانيها تحريك الوعي العربي، وكشف التناقض بين الشعوب التي ما زالت تحتفظ بالوفاء للحقوق الفلسطينية وبين النظم الرسمية التي اختارت التطبيع. ثالثها، إحداث أثر على الرأي العام العالمي، وإجبار المجتمع الدولي على إعادة النظر في الرواية المعلبة للعدو وإعادة تقييم مشروع الاحتلال ككل.
بهذا المعنى، كان الطوفان فعلًا ميدانيًا محاطًا بطبقات استراتيجية ورمزية: إعادة الثقة بالقدرة على التحرر، وتجسيد فكرة أن الجرائم المستمرة ضد الشعب الفلسطيني لا تُمحى بصمت دولي أو اتفاقيات سياسية، وأن الفعل المقاوم قادر على قلب موازين القوى وإعادة صياغة المعادلات على الأرض وعلى مستوى العقل الجمعي.
*اللحظة الشعبية الأولى الاحتفال بالمقاومة*
في لحظة اختبار انطلاق الطوفان، عمّت فرحة عارمة الأرض المحتلة، كأن ذاكرة الأمة كلها انتفضت دفعة واحدة. زغاريد النسوة ارتفعت من المخيمات والقرى والمدن المحاصرة، لا كاحتفال عبثي، بل كنداء أصيل للكرامة. تحرك المدنيون إلى قلب الأرض المحتلة عام 1948، يلامسون ترابها وعبيرها، يختبرون إحساس العودة إلى بيوتهم التي سلبت منهم قسرًا منذ النكبة، يلتقون بماضيهم ويحيون حاضرهم في آن واحد.
المشاهد كانت مزيجًا من الدهشة واليقين: دهشة من قدرة المقاومة على قلب المفاهيم التقليدية، ويقين بأن الشعب الفلسطيني يمتلك إرادة لا تُقهر. كانت اللحظة مليئة بالإيحاءات الرمزية فكل خطوة على الأرض المحتلة كانت رسالة للعدو وللعالم، أن الشعب الذي استمر في الصمود لم يكن مجرد متفرج، بل كان فاعلًا حاضرًا، يعيش الأرض والهوية والذاكرة بكل حواسّه.
*تحوّل الوعي بعد الطوفان*
أظهر الطوفان كيف يمكن للفعل المقاوم أن يعيد تشكيل الوعي الجمعي. فقد كسر حاجز الخوف واليأس، وأعاد الثقة بأن المقاومة ليست مجرد شعار، بل واقع ملموس، وأن الفلسطيني قادر على فرض إرادته، ليس فقط على الأرض، بل في المجال الرمزي والفكري. على مدى عامين من الحرب المفتوحة، ظل المقاومون ثابتين، لم يتراجعوا لحظة واحدة رغم آلة الدمار الأميركية-الإسرائيلية المتواصلة، فيما حافظت الحاضنة الشعبية على وفائها، متقاسمةً مع المقاومة الخطر والجوع، تتحول من جمهور متفرّج إلى شريك حقيقي في صيرورة النضال.
هذا التحول لم يقتصر على الفلسطينيين وحدهم، بل امتد إلى العرب والعالم: شعوب المنطقة والعالم بدأت تعيد قراءة الواقع الفلسطيني، وتعيد تقييم فكرة العدالة والاحتلال، بعد أن كان السرد الغربي يغلف الظلم ويُخفف من وطأة الواقع. الطوفان كشف أن القدرة على الفعل هي لغة أخلاقية وسياسية، وأن من يملك الأرض والهوية لا يُسقطهما إلا بفعل مباشر ومستمر.
*المغزى التاريخي ميلاد مرحلة جديدة*
رغم أنّ “طوفان الأقصى” يمثل إحدى أهم المعارك في سلسلة الصراع، فإنه تجاوز حدود المواجهة العسكرية ليصبح تحوّلًا بنيويًا واستراتيجيًا في الوعي الإنساني والسياسي. لقد أعاد تعريف العدالة على مستوى الشعوب، وكشف هشاشة الرواية الإسرائيلية التي حاولت تصوير الفلسطيني كضحية عاجزة. الطوفان مهّد الطريق لبزوغ مرحلة جديدة، مرحلة تتميز باليقظة الفكرية والسياسية، وباستعداد الأمة لإعادة صياغة مسار النضال الوطني على أسس واقعية، قائمة على القوة والوعي والقدرة على الفعل.
إن “طوفان الأقصى” لا يُقرأ فقط كمعركة، بل كفعل وجودي ورسالة إنسانية: نهاية الظلام الاستعماري، وبزوغ فجر فلسطيني جديد، يعلن أن الأرض ليست مجرد جغرافيا، بل هي ذاكرة ومصير، وأن الشعب الذي صمد على مدى أكثر من قرن لن ينهزم طالما ظل وفاؤه للأرض والمقاومة حاضرًا في وجدانه وفي أفعاله.
الطوفان خطّ بداية نهاية المشروع الصهيوني، وبزوغ شمس فلسطينية جديدة تبدّد حلكة الظلام، وتعلن أن التحرر ليس حلمًا بعيدًا، بل مشروعًا واقعيًا متاحًا لأولئك الذين يؤمنون بالحق ويملكون الإرادة.














