حين تُقنَعُ الشعوبُ بلغة «حقن الدماء وايقاف الإبادة» وتُقدَّمُ المبادراتُ على أنها مفتاحُ الحلّ، لا يلحظ الكثيرون أن إخراج عبارةٍ بسيطة من نصٍّ رسمي قد يغيّر مجرى التاريخ ويبيح الواقع لصالح احتلال دائم. شطب بند «عدم الضم» لم يكن خطأ صياغيًّا فحسب، بل كان عمليةً ممنهجة لإعادة ترتيب الأرض والحقوق: ورقةُ خداعٍ تلبس رداء السلام بينما تُشرّع فعلَ الاستيطان وتُهمّش القدس وتفتح الطريق أمام مشروعٍ يهدف إلى تهجير الشعب الفلسطيني وتفكيك مشروعه الوطني.
الذي نفّذ هذه الخدعة يعرف لغة المصالح أفضل من لغة العدالة. إدارةٌ أميركية سعت، عبر صياغاتٍ غامضةٍ، ووعودٍ اقتصادية، وضماناتٍ مشروطة، إلى إيهام العواصم العربية وتركيا وباكستان بأن الحلّ ممكِن، وأن التنازل عن بعض المطالب هو «تكلفة» مقبولة للحفاظ على الاستقرار والمصالح. لكن الواقع الميداني كان مختلفًا: كل طريق يُشقّ، وكل مستوطنة تُبنى، وكل قرار إداري يُتخذ على الأرض، كان يعيد رسم الخريطة، ويقوّض أي أمل في حلّ عادل قائم على الحقوق.
في قلب هذه المسرحية وقفت قيادة أميركية سعت لتقديم نفسها وسيطًا بينما كانت تصنع واقعًا جديدًا على الأرض لصالح حليفتها. لم تكن الخطوة مجرد قرارٍ عقيم، بل كانت استراتيجية متكامِلة: تحويل الضمّ من فعلٍ محظور إلى احتمالٍ مُشرعن، وتحويل القدس من قضية محورية إلى بند تفاوضي يُمكن تجاوزه. النتيجة: تآكل التضامن، تشتّت المواقف، وتراجع قدرة العواصم على فرض تكلفة حقيقية على من يشرعن الاحتلال.
لكن الحقيقة الإنسانية والسياسية الأصيلة تبقى أقوى من أي خدعة ورقيّة. رغم عامين من حرب إبادة يمارسها تحالفٌ عمليّ بين إسرائيل وقوةٍ دوليةٍ ضاغطة، لم تنكسر عزيمة الشعب الفلسطيني ولم تُمحَ ذاكرته. المقاوم لم تُسْلَم إرادته؛ ما زالت يده على الزناد — بقدر ما هي عبارة مجازية عن الثبات والقدرة على الدفاع والرفض، لا دعوة للعنف الأعمى — ولم تنحرف عنه عقيدة الثبات على الحق والتمسّك بالقدس والانتماء للأرض. هذه اليد، وإن كانت مجازًا، تُعبّر عن قرارٍ تاريخي: أن تبقى القضية حيّة في الذاكرة، وأن لا تُباع الحقوق بثمنٍ رخيص من وعودٍ خارجية.
السبيل للخروج من فخ الخديعة لا يمر عبر المساومة والاعتراف بالواقع المفروض، بل عبر مزيج من أدوات عملية ومُحكمة: رفضٌ سياسيٌّ موحّد، توثيقٌ قانونيٌّ دقيق يُحوّل الانتهاكات إلى ملفات لا تُمحى، حشدٌ دبلوماسيٌّ يُعيد تشكيل موازين القوة في المحافل الدولية، وحملات ضغطٍ اقتصادية ومدنية تستهدف آليات الدعم التي تُبقي الاحتلال في حالة تمدّد. المقاومة هنا لا تُفهم بمعزل عن القانون الدولي والشرعية؛ بل يجب أن تُدار ضمن استراتيجيات تُحمي المدنيين وتزيد من ثمن استمرار الانتهاكات.
المعركة الآن معقّدة ومتعدّدة المستويات: ميدانية، دبلوماسية، قانونية، وإعلامية. لا يكفي الشعور بالغضب أو الكلمات الحماسية؛ مطلوب تنظيمٌ عقلانيّ، وقيادةٌ موحّدة، واستراتيجيةٌ واضحة تُحوّل الرفض إلى قوة تأثير حقيقية. التوثيق، إرسال الملفات إلى آليات العدالة الدولية، تنشيط شبكات الدياسبورا، وإدارة حملات ضغط استراتيجية على كيانات داعمة للضم — كلها أدوات تجعل من الخديعة مكلفة ومكشوفة أمام العالم.
في النهاية نقول بصراحة تامة: من خطط للخديعة وثبت في تنفيذها قد نجح في تغطية فعلٍ ممنهج لبعض الوقت، لكنه لم ولن يستطيع أن يمحو الحقيقة. الحق الفلسطيني باقٍ في الذاكرة والوثائق وسرد الناس؛ والقدس باقية كقلب مشروع وطني لا يُقايض. واجب العرب والمسلمين وكلّ أصدقاء العدالة أن ينهضوا الآن، ليس بمجرد بيانات استنكاف، بل بحراكٍ عمليٍّ يفرض تكلفةً دائمة على مَن يشرعن الضمّ ويحوّل التجريد من الحقوق إلى واقعٍ لا يُردّ. المعركة مستمرة وسياسة المقاومة، بصيغها المشروعة والمتعددة، تبقى هي الردّ الذي يحفظ الوجود والكرامة والأرض.














