الاغتيالات الإسرائيلية قوة متوهَّمة أم إقرار بالضعف البنيوي؟
10 Sep 2025

تملك القوة وجهين: وجهٌ صلب يفرض الحسم، ووجهٌ آخر عقيم يستعرض بلا أن يحقق نتيجة حقيقية. ما تمارسه إسرائيل اليوم عبر سياسة الاغتيالات ليس قوةً منتجة للإنجاز، بل قوة عقيمة تحاول أن تغطي عجزها بانتفاشة استعراضية، تمامًا كما ينتفخ الجسد قبل أن يذوي. هذه “الانتفاشة” قد تخدع الضعاف وتغريهم بالتصفيق أو الاستسلام، لكنها في جوهرها اعتراف بأن الكيان لم يعد قادرًا على حسم صراع واحد رغم امتلاكه كل أدوات البطش. ومن هنا، فإن الانتقالات من غزة إلى بيروت وطهران وصنعاء، ثم إلى الدوحة، لا تكشف عن تمدد سيطرة بقدر ما تعكس انكشاف ضعف يتسع.


الاغتيال كاستعراض قوة عقيمة


في ظاهرها، تبدو إسرائيل قادرة على الوصول إلى القادة المستهدفين في أي ساحة. لكن في الحقيقة، الاغتيال أصبح بديلاً عن الحسم الميداني. أحد أبرز الخبراء الإسرائيليين في الاستراتيجية أقر بأن هذه العمليات “تعطي شعورًا وقتيًا بالسيطرة لكنها لا تحسم الصراع”؛ فالقتل هنا ليس وسيلة لإغلاق المعركة بل لإطالة زمنها. وكما عبّر أحد المنظّرين العسكريين الإسرائيليين: “حين تفرغ الدولة من القدرة على خوض حرب حقيقية، تكثر من الاغتيالات كمسكن للأعصاب أكثر من كونه علاجًا للداء”. بهذا المعنى، الاغتيال ليس دليل قوة، بل قناع يواري حقيقة العجز.


الاغتيال كإقرار بالضعف البنيوي


إن الانتقال من ساحة غزة، حيث فشل الاحتلال في كسر المقاومة، إلى ساحات إقليمية أبعد، ثم إلى دولة وسيطة مثل قطر، يكشف أن الأزمة في جوهرها أزمة حسم. فحين تفشل القوة في فرض الحسم، تتحول إلى استعراض يفضح ضعفها أكثر مما يعزز هيبتها. وهذا ما نراه اليوم بوضوح؛ فإسرائيل التي لم تنجح في إسكات صوت غزة، تحاول أن تصنع صورة بديلة عبر الضرب في بيروت وطهران وصنعاء، لكنها لا تنتج سوى المزيد من الدليل على ارتباكها.


مأزق التوسع وفخ الاستنزاف


إن توسع إسرائيل في فتح جبهات متوازية مع إيران وحزب الله وأنصار الله وقطر، لا يُظهر قوة متعددة الأبعاد بل مأزقًا استراتيجيًا مركبًا. فالتوسع في الخصومات يعكس غياب القدرة على تحديد الأولويات. وقد وصفت بعض الأدبيات الغربية هذا النمط بأنه “سلوك انتحاري في بيئات معقدة”، لأن الدولة التي تشتبك مع الجميع تفقد تدريجيًا القدرة على إدارة صراع واحد بفعالية. ومع كل اغتيال خارجي، لا يستعيد المجتمع الإسرائيلي ثقته، بل يتعمق شعوره بأن دولته تتخبط وتستنزف نفسها.


ما تقوم به إسرائيل هو استعراض قوة عقيمة، لا يعكس إلا عجزها عن الحسم في معركتها المركزية. إنها قوة في الصورة، ضعف في الجوهر؛ قوة تصنع ضجيجًا لكنها عاجزة عن إغلاق أي ملف. فمن يطارد خصومه في أربع عواصم إنما يعترف بعجزه عن إخضاعهم في ساحة واحدة، ومن يضرب الوسطاء الذين يحتاجهم، يكشف ارتباكه وانزلاقه إلى منطق الانتحار السياسي.


ختاماً إن الرسالة التي ينبغي أن يدركها صانع القرار الفلسطيني المقاوم هي أن هذه الاغتيالات شهادة إضافية على مأزق الكيان. الردّ الأجدى ليس في مجاراة الاستعراض، بل في تحويله إلى عبء على الاحتلال ذاته وذلك عبر فضح استهداف الوسطاء كقطر دوليًا وإظهاره كدليل على عدم أهلية إسرائيل للتفاوض، وتعميق الاصطفاف مع القوى التي طالها الاستهداف ضمن جبهة سياسية وإعلامية وعسكرية مشتركة، وتحويل كل اغتيال إلى شاهد جديد على محدودية القوة الإسرائيلية وانحدارها الاستراتيجي. وهنا يكمن مجال الفعل الفلسطيني بأن يجعل من الانتفاشة الإسرائيليةًً برهانًا على عجزها، لا دليلًا على تفوقها.

المواضيع ذات الصلة
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
الخديعة الكبرى: كيف شرعنّت واشنطن ضم الضفة وخطّت تهجير فلسطين — ترامب مهندس المصيدة
02 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
المطلوب من قادة العرب في قمة الدوحة
13 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
مصر مركز الحسم في الصراع الإقليمي
07 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
منظمة شنغهاي والتداعيات المحتملة على واقع الحرب في غزة
02 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
من غيتو وارسو إلى غيتو رفح: مخطط الاحتلال لقتل وتهجير أهل غزة
24 Aug 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
جسراً للعبور لا سلماً للنزول
19 Aug 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
إسرائيل الكبرى": من الأساطير التوراتية إلى خرائط الهيمنة على الجغرافيا العربية
16 Aug 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الإقتصادي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي| المقال القانوني
بين برلين وغزة وفارق المساعدات الجوية
07 Aug 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
حين تُصبح المساعدات سلاحًا ضد الحقيقة قراءة في قرار ترامب وانهيار الرواية الصهيونية في الداخل الأميركي
05 Aug 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
الحربُ الخمسيَّة على غزة وتبادل الأدوار لمَ هذا والمستهدَفُ جائعٌ وأعزل؟!
03 Aug 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
قطاع غزة: بين ازمة المثقف الفلسطيني والعربي
31 Jul 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
ملاحظات حول مؤتمر نيويورك للاعتراف بالدولة الفلسطينية
31 Jul 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الإقتصادي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
‎الولايات المتحدة وتأجيج الصراعات الإثنية والقومية: تكتيك جيوسياسي لكبح الصين وتطويق الخصوم
27 Jul 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
طوفان الأقصى وتجلّيات القرار المصيري: قراءة معرفية في لحظة الحسم الفلسطيني
06 Jul 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
بين لحظة الطوفان واستراتيجية المستقبل: نحو تفكير بعيد عن أسر اللحظة
05 Jul 2025