حينما تكون الأوراقُ قويةً في يدِ المفاوض لن يرى أمامَه ما يُخيفه أو يُقلقه، وحينما تكون الآلام متبادلة بين الفريقين عسكريًّا وماديًّا وأمنيًّا لن يكون أمام المتفاوضين سوى البحث عن مخارجَ وحلولٍ للتخفيف عن آلام الشعب.
هذا ما أثبتته التجارِب، وقدّرته المواقف، وأفصحت عنه الشاشات، إذ إِنّ المقاومة الفلسطينية وظَّفت كلَّ ثِقلها العسكريّ والأمنيّ، واستخدمت كُلَّ أوراقها القوية؛ لتفاوض بشراسةٍ أمام العدوَّين المشتركين -على مائدة واحدة- وهما: أمريكا المتعولمة والكيان القويّ بحليفه.
لكنّ اللافتَ للانتباه أنّ الشعبَ نفسَه يستخدمُ ورقةً قويّةً متمثلةً في النَّفَس الطويل للتّحمل والتجلّد، وورقة أخرى هي تبنّي اللاءاتِ الأربعِ المضادةِ (لنتنياهو)، وهي: لا للاحتلال ولا للتهجير، ولا للقضاء على المقاومة ولا لنزع السلاح الذي قالت عنه المقاومة: (لا يمكن أن نُسلّم السلاح؛ لأنه سلاحُ الشعب الفلسطيني)!.
وعلى الساحة الدولية وعلى نهج وسجيّة المقاومة الفلسطينية، في التفاوض مع الكيان سارت إيران مع العدو الأكبر لها (أمريكا)، حيث يكون التفاوضُ غيرُ المباشَر، وهذا من علاماتِ قوةِ المتفاوض الإيرانيّ كما قوة موقف إيران في التجاذبات السياسية وتبادل التهديدات الإعلامية ضدّ أعدائها.
وهي من زاويةٍ ثانيةٍ إشارةٌ إلى عدم الهيمنةِ والسيطرةِ الأمريكيّةِ على الطاولة التفاوضية رغم ضخامتِها وجبروتِها، إذ إنَّ التنازلَ لن يكونَ لإيران كثيرًا، بل من المتوقع أنَّ التنازلَ سيكون من طرفي التفاوض؛ لأن أوراق القوةِ لا يحملها طرف واحد فحسب!.
أما شروط واشنطن تجاه إيران في بعض جولاتها التفاوضية -مثلًا- فهي من باب اختبارات واستنطاقات تنتظرها من إيران، قد تنجح تارةً وتخفق أخرى.
ومقارنة بالجلَسات التفاوضية بين المقاومة الفلسطينية، والكيان في الحروب السابقة -سيّما عند اعتلاءِ الحركة عرشَ الحكمِ في غزة- كان التفاوضُ يتمحورُ حولَ الهدنةِ وإيقافِ الحرب، وتجنبِ القصف والاشتباك، وتبادلِ الأسرى، دون خسائرَ جوهريةٍ في المبادئ والثوابتِ عند المقاومة الفلسطينية.
إن المقاومة الفلسطينية، وعلى لسان كثير من الناطقين باسمها يؤكدون - دومًا- على إمكانية التفاوض حول التبادل والأعداد والتقديم والتأخير ، وكذلك الضمانات. مستحضرةً في كلِّ جولة تفاوضيةٍ استفزازاتٍ مصورةً وموثقةً كنوعٍ من الحرب النفسية والضغط الإعلامي الذي لا يقلُّ خطورةً وأهميةً عن الضغط العسكريِّ الذي يقابله الكيان عند أيِّ عقبةٍ تفاوضية.
وقد جرّب الكيان -بقوته الأمريكية- الضغطَ العسكريَّ لتحقيق الأهداف المرجوّة لدى الكيان والولايات المتحدة -بحكم مصلحتها الشخصية والمستقبلية مع الكيان- لكنها باءت بالفشل، رغم الوصول إلى القيادتين العسكرية والسياسية وتحقيق الألم والجرح وتأثيره الكبير دون شكّ؛ بل أضعف كثيرا من الدول والأحزاب وأدخلتهم في دائرة الاستسلام والهزيمة، لكنها لم تستطع كيَّ وعيِ المقاومة الفلسطينية، أو ضربِها في مقتل.
ولا ينكرُ عاقلٌ أنّ ما فعله الكيان في المقاومة الفلسطينية، هو بمثابة ضربات موجعة وصادمة وتُرجعُ تاريخها إلى الوراء قليلًا؛ لكنّه في القاموس الفلسطينيّ المقاوم تظهر مصطلحات سياسية وأيديولوجية موقوفة في فاتحة قاموسها المحيط وهي: حق العودة، وحق الدفاع والهجوم، وحق الحرية والتحرير، وتقرير المصير.
وختامُ المقال ما يُقال: إن التفاوضَ لا يطولُ إلا لوجود طرفين متكافئين فيما يمتلكان من أوراقٍ قويةٍ وإنَّ الحربَ لا تطولُ إلا لوجود قوتين متناظرتين لديهما من أوراق القوة.
ولعلّ من القضايا التي تجعل المتفاوضَ المقاوم صامدًا على مائدة التفاوض هي السندُ الشعبيُّ الفلسطينيُّ في غزة، حيث أثبت التاريخُ أن غزة تبلعُ المعاناة بَلعا، وتقبَل بالأقدار والأضرار، وتتماشى مع الواقع الجديد بِمُرّه وجُرحه وسواده، وتعتاد على الصدمات والأنَّات، وتأخذ الشهيق الطويل؛ لكنها لا تفرّطُ بالحقوق الإنسانية، ولا بالأوقاف الدينية والوطنية.
وعلى النقيض فالكيان لم يُطل أمدَ الحرب لأنه يحبها أو يَقْدِر على تحملها؛ ولكنه يعلم جيدا أن طوفان السابع من أكتوبر أدخله في دائرة الشيخوخة المبكرة، والهِرَم والخِرفِ السياسيّ، وحربه هذه هي ردة فعل طبيعية- وإن كانت غير متوقعة بهذا الشكل والنهج- لذا تعسرت الأمور على طرفي التفاوض، فالخسائر من الفريقين، والجروح من كليهما، وأمريكا تفقهُ جيدًا مدى الجرح العميق في جوف حليفها، كما أنَّ المقاومة الفلسطينية تفهم -جيدًا- مآلاتِ أيِّ تنازلٍ أو تفريط. وستكون النتائجُ ضارةً على الفريقين؛ لكنَّ المتشبثَ بأرضه سيتقبل النتائج وسيتوقف نزيفه، أما الدخيل فسيبقى جرحه ينزف حتى رجوعه من حيث جاء.














