شكل الاستشراق منذ بداياته أداة أساسية في عملية صناعة الآخر الشرقي وتقديمه وفق تصورات مشوهة ذات مرجعية عقدية مسيحية لخدمة الهيمنة الغربية. ثم ولد في كنفه استشراق من نوع آخر يستند إلى العقيدة اليهودية فيما بات يعرف بالاستشراق اليهودي. فأعاد إنتاج الشرق وفلسطين تحديدا بما يتوافق مع المشروع الصهيوني. وقد أتى طوفان الأقصى فكان لحظة مفصلية في كشف الزيف الذي غطى السردية الصهيونية بالكامل.
2.الاستشراق اليهودي: من الحقل المعرفي إلى النشاط السياسي.
جاء الاستشراق اليهودي في إطار الاستشراق الغربي فمثل أقصى درجات التحيز العقدي محاولا إثبات الاقتباس الإسلامي من اليهودية ثم الانتصار لسردية المشروع الصهيوني. فعند ظهور الحركة الصهيونية استمر في نشاطه ليكون داعما لها وخادما لمسعاها في إقامة دولة لليهود يكونون فيها السادة وغيرهم مواطنين من الدرجة الثانية. فزاد من بث سمومه حول الإسلام والمسلمين عامة والفلسطينيين على وجه الخصوص. محاولا شرعنة وجودهم على أرض سرقوها على مرأى العالم ومشيطنا لأصحابها. وهو كما تعرفه الباحثة الإيرانية فاطمة جان أحمد بأنه " الحركة العلمية اليهودية التي تهدف إلى دراسة كل شؤون الشرق الإسلامي السياسية والاقتصادية والتاريخية والجغرافية والأنثروبولوجية وغيرها من خلال اتباع منهج ديني والهيمنة على البلدان الإسلامية من أجل تحقيق أهدافها الدينية والسياسية وتحقيق الهيمنة العلمية على العالم الإسلامي".
لقد لاقت هذه الخرافات آذانا مصدقة وعقولا قابلة لها خاصة مع انحسار الوجود العربي والإسلامي في مقابل زيادة نفوذ اليهود في المؤسسات الإعلامية والاجتماعية والثقافية والسياسية العالمية. استمرت هذه الجهود الناعمة، حتى استيقظ المسلمون على واقع لم يفهموه ولم يجدوا له تفسيرا. فقد نصبت الشعوب الغربية العداء للإسلام والمسلمين فيما اصطلح عليه فيما بعد بالإسلاموفوبيا. وأبدت تعاطفا ودعما انعدم مثيله في العالم لليهود غير مشروط. وجرمت حركة المقاومة في فلسطين ووسمتها بالإرهابية في سابقة لم يشهد لها التاريخ نظيرا. فلطالما كان المقاوم بطلا. غير أن المقاوم الفلسطيني كان الاستثناء. فراح يُسأل أسئلة لبداهتها وقف أمامها حائرا. لماذا تقاوِم؟ مع أن الاحتلال نفسه كان دائما سببا كافيا للمقاومة.
3.طوفان الأقصى...ليست مجرد معركة!
شهدت انطلاقة معركة طوفان الأقصى ذروة تجليات جهود الظاهرة الاستشراقية اليهودية في الغرب. حيث اتفقت كل وسائل الإعلام الغربية على اختلاف اتجاهاتها ومشاربها على سؤال واحد" هل تدين حماس؟" وعلى تسمية واحدة" هجمات إرهابية" واعتبار السابع من أكتوبر بداية لكل شيء منكرة بذلك تاريخا حافلا بالسجال بين المغتصب وصاحب الأرض السليبة وسبعة عقود من المذابح اليهودية. غير أن هذه المعركة ما لبثت أن غيرت كثيرا من وجهات النظر، والمواقف، والآراء. فكما تعالت الأصوات يومها "هل تدين حماس؟ هذه هجمات إرهابية وحشية". تعالت بعدها أصوات في الغرب، في أكثر عواصم ومدن العالم ولاء وتعصبا لليهود، نيويورك، واشنطنن باريس، بروكسل وغيرها الكثير. هتفت ومازالت تهتف ليومنا هذا" FREE PALESTINE". وهذا من المفروض أن يجعلنا على أهبة لتصيد هذه الفرصة لنصنع روايتنا، ونعلن حربنا على الزيف والخداع والتكذيب الذي مورس بحقنا في العالم. بدل الانشغال العقيم بالتشكي والمناداة بأن الأيادي اليهودية تفعل وتفعل. علينا أن نقدم صورة لنا، حقيقية، صادقة بلا فلاتر. نوضح فيها أن الإرهاب الحقيقي هو ما يمارسه الصهاينة على أرض فلسطين لعقود.
4.ترميم الصورة، مسؤولية من؟
هذه الحرب في سبيل إعادة تقديم أنفسنا والتموضع بالشكل الذي يليق بنا على السلم الحضاري ليس من الضروري أن يكون منبعها الأول مراكز البحث كما طرحت دراسات كثيرة وإن كان ذلك أفضل، لقد كتب الباحثون والمفكرون بغزارة وحماس عن الاستشراق، غير أن ذلك الحماس كله كان ينطفئ عند النقطة التي تستوجب كل حماس وإبداع، ما العمل؟ كيف نواجهه في مرحلته هذه (الصهيونية) وننتصر عليه؟ فتقتصر إجابتهم على تعليق مسؤولية المواجهة على المراكز البحثية. وهذا هو الأولى لو كانت ظروفنا طبيعية. لكن ظروفنا الحقيقية هي أن كثيرا من البلدان الإسلامية اليوم تعيش تحت سيطرة حكومات مطبعة علنا أو حامية للكيان الصهيوني في ممارساتها تحت مسميات وتبريرات مداهنة عديدة. وهذا الواقع يجعل عمل المراكز إن سمح لها بالوجود أصلا مكبلا ومحدودا. فالمناسب هو نقل مستوى المواجهة لفئات أوسع من الناس وإن لم تكن هذه المشاركات تحت إشراف المراكز البحثية، وإن لم تكن هذه الفئات ذات مكانة أكاديمية محددة. يكفي أن يكون لدينا الفرد الواعي بالمسؤولية صاحب الهمة والسعي لتحملها. فنحن نحتاج إلى كلمة الأديب وقصته وروايته التي ترد الكذب والتلفيق الذي كتب عنا. ونحتاج لمقال المؤرخ الرصين ليحفظ تاريخنا وذاكرتنا من التحريف والتشويه. ونحتاج لكل ما يمكن أن ينتجه الإعلامي النزيه والمخرج الرسالي لإعادة بلورة الوعي العربي الإسلامي والغربي بالمسلم والفلسطيني المقاوم. ونحتاج للمترجم الفذ ليوصل للآخر مجموع هذه الحقائق. ليس هذا وحسب. فإن الإعلام الرقمي اليوم يفتح لنا آفاقا واسعة للمواجهة كما فعل العدو بادئ الأمر. عن طريق إنشاء خلايا عمل مهمتها اختراق المجتمع الرقمي اليهودي وشن حروب نفسية عليه.
توصيات عملية:
- نقل المواجهة إلى الفضاء العمومي: بات من الضروري تحرير الخطاب من احتكار النخبة وإشراك كل أبناء الأمة خاصة وأن فاعلية نسبة كبيرة من النخب لم تكن في مستوى المعركة.
- بناء جبهة إعلامية فسيفسائية متعددة التخصصات متكاملة مع بعضها وذات رؤية موحدة: الكاتب والأديب والإعلامي والمترجم والمؤرخ والمعلم وغيرهم. كل واحد منهم معني بأن يكون رساليا ويساهم في تصدير الرواية الإسلامية ومحاربة الدعاية الصهيونية كل حسب تخصصه. فالمقالة التاريخية سلاح، والرواية الأدبية سلاح، وكل مادة إعلامية مهما كان شكلها سلاح.
- استغلال تكنولوجيا الإعلام الجديد وتنسيق الجهود بواسطتها لإنتاج معرفة حقيقية عن الشرق الأوسط، وترجمتها وتصديرها للمجتمع الغربي.
- استغلال تكنولوجيا الإعلام لتعزيز مبادرات الحرب النفسية على مجتمع الاحتلال: مثل مشروع "إسناد"، الذي حقق اختراقات هامة وخاض مواجهات مطولة منذ السابع من أكتوبر، وعبرت العديد من المؤسسات والمعاهد البحثية التابعة للكيان أن إسناد أصبحت تشكل أكبر تحد على الجبهة الداخلية تاريخيا. هذه الحركة تضم آلاف المتطوعين من العديد من دول العالم وعشرات الخبراء في المجالات المختلفة اللازمة لتسيير المعركة الإعلامية ومن بينها الترجمة والبحث والتقنية والتسويق وغيرها.
- تكوين صناديق دعم مالي للمحتوى المقاوم والإنفاق السياسي وتشكيل لوبي في الغرب لخدمة قضايا الأمة وتوجيه السياسات الغربية لصالحها.
- تحصين المجتمعات العربية والإسلامية ضد التطبيع السردي: عبر تطوير مناهج تعليمية ومحتوى إعلامي ومبادرات شبابية لمقاومة المد الصهيوني في التعليم والأدب والفن.
خاتمة:
لم تأت معركة طوفان الأقصى لتثبت لنا أن الجيش الذي لا يقهر يمكن قهره وحسب. بل أعطتنا فرصة لنكون أصحاب كلمة مسموعة في العالم. وهذا الاستعداد الغربي للفهم والمعرفة عنا لا بد أن يقابل بجهود معتبرة وقادرة على مواجهة ما كتبته عنا الأقلام اليهودية ومن ناصرها ومن ثم استعادة الحق الفلسطيني والأممي الضائع.














