فلسطين بوصفها انكسارًا كوانتيًا في بنية المنهج العلمي
17 Jul 2025

فلسطين بوصفها انكسارًا كوانتيًا في بنية المنهج العلمي

بقلم: خالد دراوشه


في البدء كان الشرخ: عن لحظة معرفية لا يمكن تجاوزها

عبر التاريخ البشري، شكّلت كل لحظة جرحٍ في الوعي نقطة انعطاف في فهم الوجود. تتعدد الجروح، لكن واحدًا منها يُحاصر كل مفردة، كل سؤال، كل علاقة بين الذات والموضوع، بين الواقع والرؤية، بين الرمز والجسد. هذه اللحظة تُدعى: فلسطين.

ليست فلسطين منطقة جغرافية تتزاحم فيها القوى على النفوذ، ولا صراعًا على هوية أو وطن. فلسطين فضاء معرفي متوتر تتعرى فيه حدود المنهج العلمي وتتعرّض فيه معاييره للاهتزاز. منذ أن أُنتجت فلسطين كـ"ملف" على طاولة القرار الدولي، وُضعت ضمن بنية تمثيلية تصيغها من الخارج، وتعيد إنتاجها ضمن شبكات التحليل والمؤتمرات والنماذج والتقارير. ومع ذلك، تظلّ التجربة الفلسطينية عصيّة على الاحتواء داخل هذه البنية، بل تتجاوزها وتكشف تضاريس معرفية لم تتنبّه لها الحداثة يوماً.


بين الباحث والمبحوث: انهيار مبدأ الفصل المعرفي

في كل محاولة لفهم فلسطين وفق منهج، ينكشف الباحث بوصفه جزءًا من الظاهرة ذاتها. لا يوجد موقع "خارجي" يُطلّ منه العقل ليقيس أو يراقب أو يصنّف. لا توجد مسافة آمنة بين من يطرح السؤال وبين من يُعاش عليه الجواب. تُعيد فلسطين رسم حدود الراصد، وتُجبره على إعادة تقييم ذاته بوصفها نقطة اشتباك، لا مرصداً حيادياً.

يتحوّل السؤال المنهجي من: "ما الذي يحدث في فلسطين؟" إلى: "أي نوع من العقل أنتج أدوات الوصف هذه؟" تتعرى المفاهيم: الأمن، العنف، الشرعية، الإرهاب، القانون، الديمقراطية، الحداثة، العقلانية. تتقاطع كلّها فوق جسد طفلٍ يُنتشل من بين الأنقاض. كل أداة تحليلية تُستخدم دون مساءلة تُشارك في إخراج الواقع من سياقه، وتحويل الإنسان إلى مادة إحصائية، والعدالة إلى جدول قابل للقياس.


المنهج كآلية ضبط رمزي للواقع

منذ أن تأسس ما يُسمى بـ"المنهج العلمي"، وهو يُبنى على فرضية مركزية: أن الواقع منتظم، وأن العقل قادر على ضبط هذا الانتظام عبر قواعد قابلة للتكرار. هذه الفرضية تعمل كمنظومة ضبط لغوي، تنظّم العالم داخل فضاء رياضي أو لُغوي محدّد. لكن ما العمل حين يظهر واقع، لا يتّسق مع النسق، ولا يرضخ للبنية، ولا يسمح للتفسير بأن يُغلق عليه؟

فلسطين لا تُمنهج، لأن وجودها المعرفي قائم على التمزق، على التشظي، على استمرارية الانقطاع. كل محاولة لفهمها عبر أدوات "العقل المحايد" تؤول إلى طمس تجربتها الحقيقية. يُعاد إنتاج الضحية ضمن صياغات تفرّغها من طاقتها الرمزية، وتُجمّدها داخل سرديات متكررة تريح الضمير العالمي وتُشبع شهية الباحث الأكاديمي.


كوانتية المقاومة: المعنى في لحظة التداخل

تمامًا كما في الفيزياء الكوانتية، حيث لا يمكن التنبؤ بحالة الجسيم إلا لحظة الملاحظة، تُبنى المقاومة الفلسطينية في لحظة التداخل بين الزمان والمكان والشهادة والاحتمال. تُولد الفكرة في قلب المجزرة، تُزهر الروح من شظايا الصاروخ، ويتحوّل الحجر إلى أداة تفكيك للزمن الاستعماري.

المقاومة هنا ليست رد فعل على قوة مهيمنة، بل بنية توليد للمعنى، لحضورٍ يصوغ ذاته ذاتيًا، يتشكّل من رحم الانقطاع، ويقف في مواجهة الانسجام القسري الذي تفرضه أدوات التحليل السياسي. إن الطاقة المعرفية التي تولّدها فلسطين في سياق الفوضى لا تستمد شرعيتها من أي مبدأ خارجي، بل من ذاتها، من كونها غير قابلة للتحديد الكامل، وغير خاضعة للإغلاق المفهومي.


فلسطين والذكاء الاصطناعي: من يدرّب من؟

حين تُغذّى خوارزميات الذكاء الاصطناعي بنصوصٍ أنتجتها ثقافات القوة، فإن نتائجها تُعيد إنتاج المنظور ذاته الذي صاغ تلك النصوص. تصبح خريطة القصف "بيانات"، وتتحول شهادات الناجين إلى "مدخلات صوتية"، ويُعاد ترميز الدم ليُناسب نماذج التصنيف الآلي. هنا، تتجلّى المشكلة في جوهرها: لا يمكن فصل الأداة عن مرجعيتها. كل تقنية تحمل معها حمولة معرفية، وكل شبكة عصبية تعكس مُدرّبها.

فلسطين تُربك الذكاء الاصطناعي، لأنها تفجّر علاقته بالحقيقة. تُظهر أن الخوارزمية مهما بلغت من قدرة على الاستقراء، تظل غير قادرة على احتواء تجربة وُلدت من الانهيار، وتغذّت من غبار البيوت المهدّمة، وتناقلت ذاكرة الدم شفهيًا خارج نطاق البرمجة.


نحو تحرير المنهج: فلسطين كأفق لإنتاج معرفة جديدة

تتيح التجربة الفلسطينية فرصة استثنائية لاختبار أفق معرفي مختلف. لا يعود المطلوب هو تطوير أداة، أو تعديل نموذج، بل إعادة صياغة ما يعنيه أن نبحث. يتحوّل الباحث إلى مشارك في الجرح، والملاحظة إلى فعل التزام، والتحليل إلى ممارسة أخلاقية.

في هذا الأفق، لا تُبنى المعرفة على التراكم، بل على الانفجار. لا تنمو في تسلسل منطقي، بل تنبثق من لحظة اشتباك حقيقي مع المعنى. فلسطين لا تدخل كحالة داخل نموذج، بل تُعيد هيكلة النموذج ذاته، وتحوّله من وسيلة شرح إلى فضاء مقاومة.


الخاتمة: في قلب فلسطين، يُعاد تعريف المعرفة

كل لحظة في تاريخ فلسطين تُنتج شرخًا معرفيًا. كل مشهد، كل صرخة، كل جنازة، كل حجر، يُعيد صياغة المفاهيم من جديد. لا يوجد إطار قادر على الإحاطة، لأن فلسطين لا تستقر. تتجاوز، تقفز، تُفاجئ، تُقاوم.

هي ليست ملفًا يُفتح ويُغلق، وليست موضوعًا يُدرس. فلسطين المنهج، والمحتوى، والسؤال، والإجابة.

من أراد أن يفهم، عليه أن يتعرّى من أدواته، أن يقترب دون وساطة، أن يُنصت إلى العدم حين يتحوّل إلى معنى، أن يسير في الحطام بوصفه أرشيفًا مفتوحًا للحقيقة.

فلسطين ليست معرفة نبحث عنها، بل هي اللحظة التي نُخلق فيها كباحثين حقيقيين.

المواضيع ذات الصلة
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
مفهوم المقاومة الفلسطينية وطوفانها
07 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
طوفان الأقصى عامان من الوعي المقاوم إلى ميلاد مرحلة جديدة للحقوق الفلسطينية
07 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
الخديعة الكبرى: كيف شرعنّت واشنطن ضم الضفة وخطّت تهجير فلسطين — ترامب مهندس المصيدة
02 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
المبادرة الأمريكية: غطاء للانتصار الرمزي للاحتلال أم اختبار للقوة الفلسطينية؟
02 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال الثقافي والاعلامي
أي مستقبل لغزة في ظل مجلس ترامب للسلام؟
30 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال الثقافي والاعلامي
الاعترافات بفلسطين تتطلب إصلاحات شاملة
24 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
‎استراتيجية الاحتلال الثابتة ضد الاعترافات بالدولة الفلسطينية
22 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
المطلوب من قادة العرب في قمة الدوحة
13 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
خدعة “المجانية” وواجب الانتصار الفلسطيني
12 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
ماذا ينتظر الخليج بعد الفخاخ الأربعة؟
12 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
الاغتيالات الإسرائيلية قوة متوهَّمة أم إقرار بالضعف البنيوي؟
10 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
من الأونروا إلى إمارة الخليل: استراتيجيات تفكيكالمرجعية الفلسطينية واستشراف مآلاتهام
07 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
مصر مركز الحسم في الصراع الإقليمي
07 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
تركيا بين التدخل الإقليمي ومسؤولياتها التاريخية تجاه فلسطين
05 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال الثقافي والاعلامي
سوزان ساراندون الفن الملتزم كجسر للتضامن مع فلسطين
03 Sep 2025