غزة: عندما تنتصر ثنائية المأساة والمقاومة
04 Aug 2025

في خضمّ الكارثة الإنسانية التي يشهدها قطاع غزة مع اشتداد آلة الحرب الصهيونية، يتعاظم التضامن الدولي الشعبي مع القضية الفلسطينية ليكتسب أبعاداً تتجاوز التعاطف الإنساني، ويتحول لما يشبه جامعة عالمية لمحو الأمية (إذا ما جاز التعبير)، ليمنح زخماً غير مسبوق، ومراكمة نوعية وكمية للمعرفة الحقيقية بجوهر قضية الشعب الفلسطيني، والمشروع الصهيوني، وارتباطاته، وتأثيره ليس فقط على الفلسطينيين باعتبارهم المتضرر الأول مادياً، بل على كافة شعوب العالم، وبطبيعة الحال شعوب الغرب التي لم يعد مصطلح معاداة السامية أو حق الكيان في الدفاع عن نفسه يقنعها، ذلك أن الغالبية العظمى من الأوروبيين والأمريكيين اليوم لم يعاينوا في مجتمعاتهم مظاهر العداء لليهود التي كانت سمة بارزة في أوروبا في القرون الماضية، لكنهم يرون بأعينهم ارتكاب الكيان لما يفوق جرائم النازية والفاشية، ويرون بأعينهم تحكّم اللوبيات الصهيونية بسياسات بلادهم وتشريعاتها، واحتكاره لتفسير القانون الدولي ونطاقات تطبيقه.

إن هذه الحالة الاستثنائية من الوعي والتضامن الملموس - بالنظر لتاريخ نضال الشعب الفلسطيني لما يزيد عن 100 عام بوجه مشاريع الانتداب والاحتلال - والمتصاعد منذ طوفان الأقصى، لم تأتِ من فراغ ولا نتيجة لحملة دبلوماسية تقليدية، بل هي ـــ في جوهرها ـــ انعكاس مباشر لقوة صمود إعجازي متراكم لشعب محاصر ويتعرض لحملة إبادة، لكنه ما زال يقاوم معبراً عن معادلة دقيقة: طالما أن الصمود مستمر، فهذا يعني مزيد من كشف الاختلال في موازين العدالة الدولية المزعومة، ومزيد من انكشاف اللوبيات الصهيونية وأدواتها وأذرعها إقليمياً ودولياً، وهي التي استثمرت كل إمكاناتها على مدار عقود خلت لإحكام قبضتها ليس فقط على الأرض الفلسطينية بل في الإقليم والعالم، وطالما أن المقاومة حيّة سيبقى التضامن متصاعداً، لكن انهيارها - لا قدّر الله - سيحوّل هذا التضامن إلى شعارات وبكائيات فارغة، لا فعالية أو بوصلة لها ميدانياً.

لطالما عرفت القضايا العادلة في التاريخ فترات من العزلة، لكنها استعادت الاهتمام عندما عبّرت الشعوب عن مقاومة فعلية للظلم. والتاريخ الطويل للبشرية شاهد على شعوب استسلمت فطمست ومحيت، وعرقيات أُعيد تشكيلها، وثقافات تم هضمها. 

لكن ما يميز الوضع في غزة هو أن الشعب لا يقف فقط كشاهد على المجازر، بل كفاعل يتحدى، ويتمسك بحقّه في الوجود على أرضه، لقد رأى العالم أجساد الأطفال الممزقة، وسمِعَ صرخات النساء الثكالى لا يجدن طعاماً لمن بقي من أطفالهن، لكنه أيضاً شاهد الصيادين يعودون للبحر رغم الرصاص بحثاً عمّا قد يسد رمقهم، ومعلّمين يدرّسون الطلبة بين الركام، وأطباء وممرضين يبذلون فوق طاقتهم لمعالجة جريح، ومسعفين جرحى يحملون أطفالاً جرحى لإنقاذهم، ومقاومين يُقاتلون برعاية الله رغم الاستحالة العسكرية، وصحفيين يتحدون الاحتلال لنقل الحقيقة والواقع ويدفعون حياتهم ثمناً في مشهدية لم تسجلها البشرية قط، كما تحوّلت غزة لأكبر منقذةٍ وداعيةٍ للإنسانية وللإسلام، فكلمة الجد الشهيد خالد نبهان (روح الروح) كسرت صورة نمطية وأظهرت قلوباً لا نسمع عنها سوى في الروايات، وكلمات الاحتساب للشيخ باهي رمضان دفع الكثيرين لفهم فلسلفة التوحيد بالله والثواب والحياة والآخرة في ظل موت يحاصر أنفاس الرضّع. إن ثنائية المأساة والمقاومة هي التي حرّكت الشوارع في لندن ومدريد وباريس ونيويورك وتورونتو وغيرها. 

لو كانت غزةّ تصدّر صور المأساة فقط، لرثاها الناس حيناً ثم تجاهلوها في زمن الأزمات المتسارعة والتضليل والتشويه الإعلامي المتسارع، ولكن لأنها ضحية تقاتل، فإنها تصدّر قيمة إنسانية باتت نادرة: الكرامة في أقصى لحظات العجز، وحين تستمر المقاومة في الرد رغم الحصار، يقرأ العالم ذلك كرفض للإبادة، لا كاستمرار للعنف، ومن هنا بالضبط تتولّد المشروعية الأخلاقية لمواصلة المقاومة في نظر الشعوب، لا عبر الخطب أو المؤتمرات، إنها المعاناة الإنسانية التي تصرّ على عدم الاستسلام.

ما نقوله هنا ليس شعارات، بل هو سلوك وصفه ودوّنه العديد من علماء النفس الاجتماعيين، على سبيل المثال يقول عالم النفس الاجتماعي الكندي ألبرت بندورا صاحب نظرية التعلّم الاجتماعي (النماذج التي تتسم بالشجاعة والمثابرة تحفّز الآخرين على السلوكيات الإيجابية، لأنها تُظهر أن التغيير ممكن) هذا يعني أن التحدي يحفّز البشر على التعاطف والتفاعل، لأنهم ينجذبون إلى القوة الأخلاقية أكثر من الضعف السلبي. من جانبه يشير عالم النفس الاجتماعي الألماني إريك فروم بأن (المقاومة ضد الظلم ليست فقط واجب أخلاقي، بل هي شرط وجودي لإبقاء إنسانيتنا حيّة) أي أن المجتمعات تتفاعل مع الصامدين لأنها تجد فيهم انعكاساً لإنسانيتها، وليس في الضحايا السلبيين فقط. أما عالم النفس النمساوي فيكتور فرانكل فيقول في كتابه "الإنسان يبحث عن معنى" (يمكن سلب الإنسان من كل شيء، إلا شيء واحد: حرية اختيار موقفه في ظل أية ظروف، واختيار طريقه) وهذا يعني أنه حتى في أقسى الظروف، فإن ردة فعلك تحدد رؤية الآخرين لك، وتمنحك القوة الأخلاقية التي تحرّك الآخرين.

أمام كل ذلك، يلجأ الكيان لمزيد من الإرهاب، ويستخدم كل نظريات الإخضاع بالقوة، وهندسة المجتمعات وإعادة بناء وعيها بالقتل والتجويع، فهو يعلم أكثر من غيره عمق ما يجري دولياً، ولن يتوانى عن اجتراح المخططات للالتفاف على الوعي العالمي المتصاعد وإجهاضه، فهو يبحث عن استعادة الهيمنة للرواية الصهيونية التي ستنتصر بحسبه في حال أخضعت الطرف الآخر لإرادتها، هذا هو معنى النصر المطلق الذي يتحدث عنه نتنياهو ويروج له ويريد ترجمته على أرض الواقع. إن استسلام الشعب الفلسطيني ومقاومته سينعكس بالتلاشي التدريجي للتضامن الدولي، فالشعوب والشباب بطبيعة الحال تحتاج إلى رمز حيّ يستنهضها، ولا يمكنها أن تتفاعل مع العجز الكامل أو الرضوخ، ما يبحث عنه نتنياهو هو القفز عن حقوق الشعب الفلسطيني، وتأطيرها إقليمياً ودولياً كملف إنساني بحت لا كقضية تحرر لشعب تحت الاحتلال، هو يبحث عن وسيلة للهروب من الضغوط السياسية المتصاعدة بضرورة منح الفلسطينيين حقوقهم المسلوبة، عبر طرح مبادرات تفرّغ الكفاح الفلسطيني من جوهره وتقصره على شحنات المساعدات والإغاثة. 

هي صيغ "السلام الاقتصادي والتعاون الأمني"، ووعود الرفاهية للفلسطينيين والاستثمارات التي يعيق تدفقها ما يصطلحون على تسميته بالإرهاب الفلسطيني، الذي لا يقتصر بحسبهم على الجانب العسكري بل يشمل كذلك مناهج التعليم وحق العودة وكافة عناصر السردية الفلسطينية.

تمثل غزة القلعة الأخيرة للقضية الفلسطينية، وللقضية الإنسانية، جداراً متعباً بوجه الإرهاب الصهيوني الذي يوشك على ابتلاع المنطقة. من هنا تحديداً تكمن أهمية توجيه التضامن العربي والإقليمي والدولي ليستشعر خطر الصهيونية على الهوية والثقافة والحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية لكل سكان العالم، ليتحول التضامن مع غزة والوعي العالمي الذي أوقظته لحركة عالمية تصاعدية لا تتوقف، تحدد أهدافها بشكل واضح، تحاصر الصهيونية باعتبارها خطراً على العروبة والإسلام والإنسانية جمعاء، خطرٌ لا يمكن التعايش معه ولا يجب أن يُسمح له بتزوير التاريخ والواقع لتغذية آلة القتل والدمار تحت شعارات زائفة كمعاداة السامية تم تضخيمها وتشويهها لتكميم الأفواه ومواصلة الابتزاز والتحكم عبر أذرع أخطبوطية تعبث بعقول ومصير البشرية، وتعمل جاهدة لاستدعاء صدام الحضارات باعتباره الحل للأزمة التي تمر بها الصهيونية والامبريالية الأمريكية على كافة الصعد. هذا هو السياق المنطقي الذي تفتقده كثير من النخب العربية والإسلامية، والأهم حكام هذه الدول، وحالهم كحال المستجير من الرمضاء بالنار، التي تبحث عبثاً عن صيغ تهادن بها الاحتلال، وتخطب ودّه فيقابلها بمزيد من الغطرسة والعنجهية، وملوحاً بخطته القديمة الجديدة: لا وجود لفلسطين، ويجب إعادة تشكيل الإسلام باعتباره العائق الجوهري في وجه تغيير هوية المنطقة للأبد، وعلى كل شعوب المنطقة أن تخضع لهيمنة التقنية والعقل الصهيوني اليهودي العبقري. 

ليس خفياً على أحد ما يتوعد به قادة الكيان من نكبة جديدة للشعب الفلسطيني، لذا فإن صمود غزة اليوم هو من يصنع بوصلة ويمنح شرعية وروحاً للتضامن العالمي، أما في حال انكسارها فإن التضامن سيتحوّل إلى ذكرى والمأساة لنكبة جديدة. إنه امتحان حضاري للعروبة وللمسلمين وللإنسانية، لكن في هذا الامتحان، لا يستيقظ الوعي العالمي المخدّر صهيونياً، ولا تنجح الضمائر إلا إذا رأت من يُصرّ على البقاء، على المقاومة، على الحياة رغم كل شيء، وذلك ضرورة استراتيجية تُبقي القضية حيّة وعصية على إعادة التشكيل.

المواضيع ذات الصلة
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
مفهوم المقاومة الفلسطينية وطوفانها
07 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
طوفان الأقصى عامان من الوعي المقاوم إلى ميلاد مرحلة جديدة للحقوق الفلسطينية
07 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
الخديعة الكبرى: كيف شرعنّت واشنطن ضم الضفة وخطّت تهجير فلسطين — ترامب مهندس المصيدة
02 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
المبادرة الأمريكية: غطاء للانتصار الرمزي للاحتلال أم اختبار للقوة الفلسطينية؟
02 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
‎استراتيجية الاحتلال الثابتة ضد الاعترافات بالدولة الفلسطينية
22 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
المطلوب من قادة العرب في قمة الدوحة
13 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
خدعة “المجانية” وواجب الانتصار الفلسطيني
12 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
ماذا ينتظر الخليج بعد الفخاخ الأربعة؟
12 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
الاغتيالات الإسرائيلية قوة متوهَّمة أم إقرار بالضعف البنيوي؟
10 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
من الأونروا إلى إمارة الخليل: استراتيجيات تفكيكالمرجعية الفلسطينية واستشراف مآلاتهام
07 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
مصر مركز الحسم في الصراع الإقليمي
07 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
تركيا بين التدخل الإقليمي ومسؤولياتها التاريخية تجاه فلسطين
05 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
منظمة شنغهاي والتداعيات المحتملة على واقع الحرب في غزة
02 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
اللاءات الأمريكية وثروة غزة، الجيوسياسة والبديل الطاقوي
30 Aug 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
غزة وتآكل القوة الناعمة الأمريكية عالمياً
28 Aug 2025