من الأونروا إلى إمارة الخليل: استراتيجيات تفكيكالمرجعية الفلسطينية واستشراف مآلاتهام
07 Sep 2025

مقدمة

تتجاوز أزمة الأونروا حدود المؤسسة الإنسانية إلى أفق سياسيواسع يعكس محاولات منهجية لتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيينعبر محاولات متعمدة لتفكيك هذه المرجعية الأممية التفكيك هنايُقصد به تحويل اللاجئين من "كتلة سياسية موحدة" ذات هويةوطنية وحقوق جماعية، إلى "أفراد متفرقين" تُختزل قضيتهم فيالاحتياجات الإنسانية والمعيشية العشيرة كبديل اجتماعي عبرإضعاف وكالة الأونروا، وتهميش المخيمات، وإعادة صياغة هويةاللاجئ الفلسطيني. ومن أخطر هذه المحاولات الدفع باتجاهاستبدال البُنى الوطنية للاجئين ببُنى عشائرية قبلية، بما يعنيإعادة هندسة الهوية الفلسطينية وتذويبها في هويات محلية فرعيةعبر تقويض المرجعية الأممية، وتفتيت الهياكل الوطنية الجامعة، واستبدالها ببدائل محلية أو عشائرية يسهل التحكم بها. 

وفي الوقت الذي يُطرح فيه مشروع جمع السلاح من المخيمات فيلبنان تظهر على السطح مقترحات تتعلق بإنشاء “إمارة عشائرية” في الخليل، بما يعكس اتجاهًا واحدًا لاستبدال المرجعية الفلسطينيةالجامعة بمرجعيات محلية وظيفية، تمهيدًا للتوطين وإلغاء حقالعودة. اذ تُعدّ قضية اللاجئين الفلسطينيين من أكثر القضاياحساسية في الصراع العربي–الإسرائيلي، إذ تمثل العنوان الأكثرتعقيداً والأكثر تجذراً في الوعي الفلسطيني والعربي والدولي. 

الأونروا: مؤسسة في قلب الاستهداف

منذ تأسيسها عام 1949، شكّلت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيلاللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) ركنًا أساسيًا في المشهدالفلسطيني والعربي، كانت شهادة أممية على أن قضية اللاجئينالفلسطينيين لم تُحل، وأن مسؤولية المجتمع الدولي مستمرة، ليسفقط لكونها مؤسسة خدماتية تقدم التعليم والصحة والإغاثة، بل لأنهاأصبحت رمزًا سياسيًا وقانونيًا لقضية اللاجئين وحق العودة. فيالمقابل، تتزايد المحاولات الدولية والإقليمية لإنهاء أو استبدالالأونروا، في إطار مشاريع تهدف إلى تصفية قضية اللاجئين. وفيخضم ذلك، يبرز دور العشائر الفلسطينية  كفاعل اجتماعيوسياسي، يُراد له أحيانًا أن يكون بديلًا أو غطاءً لتغييب الوكالةومنذ ذلك الوقت، لم تتوقف محاولات إسرائيل وحلفائها لإضعافها:

● الخمسينيات والستينيات: مشاريع لتوطين اللاجئين في دولعربية مقابل إنهاء خدمات الأونروا.

● السبعينيات والثمانينيات: سياسات تقليص الميزانيات وربطالتمويل بشروط سياسية.

● التسعينيات: الرهان على مسار أوسلو لإنهاء دور الأونرواتدريجيًا.

● 2000 وما بعده: تصاعد حملات التشكيك والاتهام للأونروابـ"تأبيد اللجوء".

● (2017–2020) طرحت الإدارة الأميركية مقاربة تتضمن شطبقضية اللاجئين نهائياً. تضمنت الخطة نقل مهام الأونروا إلىالدول المضيفة أو مؤسسات محلية، بما يعزز فكرة دمجاللاجئين وإنهاء خصوصيتهم، وقف التمويل الأميركي شكّلأخطر ضربة للوكالة بتقليص خدماتها التعليمية والصحية يهددبتفريغ المخيمات من بعدها السياسي.

● 2024–2025: تجدد تعليق التمويل وتعطيل إدخال المساعداتفي غزة خلال الحرب الأخيرة، الأهداف هنا واضحة: نزعالشرعية عن الأونروا باعتبارها رمزًا سياسيًا جامعًا للاجئينالفلسطينيين.

غزة: العشائر بديلًا عن الأونروا

خلال الحرب الإسرائيلية على غزة، برزت محاولات واضحة لإضعافالأونروا عبر استدعاء العشائر لتوزيع المساعدات. هذا الخيار، وإنتم تسويقه كحل عملي في ظل تعطل المؤسسات، يحقق أهدافًااستراتيجية،

تتمثل في تقليص دور الأونروا كمؤسسة أممية، وتهميش دورالفصائل الفلسطينية وإضعاف تمثيلها السياسي، وتحويل قضيةاللاجئين من ملف دولي إلى قضية محلية، وكذلك تمهيد الطريقلسياسات التوطين وإنهاء حق العودة، وإعادة المجتمع إلى وحداتعشائرية يسهل التحكم بها عبر أدوات الاحتلال، وبعض الأطرافتحاول توظيف العشائر كأداة وظيفية لإدارة الأوضاع الاجتماعيةإذا جرى تقليص الأونروا، هذا الاستخدام يحوّل دور العشيرة منفاعل وطني مقاوم إلى بديل محلي يُستخدم لتمرير مشاريعالتصفية.

هذه المقاربة تذكر بمحاولات استعمارية سابقة لتفتيت المجتمعاتالفلسطينية إلى وحدات صغيرة، وهو ما يهدد النسيج الوطنيويضعف الهوية الجمعية وتغييب الخطاب الفلسطيني الرسميالمتعلق بالعودة، عبر التركيز على القضايا المعيشية.

لبنان: جمع السلاح وتفكيك خصوصية المخيمات

طرحت مشاريع متكررة في لبنان لجمع السلاح من التنظيماتالفلسطينية داخل المخيمات، ورغم تقديمها كخطوات أمنية، فإنهاتحمل دلالات سياسية خطيرة، فالسلاح في المخيمات رمز سياسيأكثر من كونه عسكريًا، يعبّر عن رفض التوطين والتمسك بحقالعودة، فجمع السلاح بالتزامن مع إضعاف الأونروا يقود إلى دمجتدريجي للاجئين في المجتمع اللبناني، أي التوطين بحكم الأمرالواقع. هذه الخطوات لا يمكن فصلها عن سياسات أوسع تهدفإلى تفكيك الهياكل الخاصة باللاجئين وتحويلهم إلى أفراد فاقدينلأي حامل سياسي أو قانوني، فالعلاقة بين سحب السلاحوإضعاف الأونروا علاقة جدلية فكلما ضعف دور الأونروا وتعززالشعور بالتهميش، تعمّق التمسك بالسلاح باعتباره رمزاً للهويةووسيلة للأمن الذاتي. وأي معالجة جدية لهذا الملف يجب أن تنطلقمن قاعدة أساسية: لا يمكن الحديث عن الأمن ونزع السلاح مندون بدائل إنسانية وحقوقية، تبدأ بتعزيز دور الأونروا أو إيجادصيغة تحافظ على الحقوق التاريخية للاجئين وتمنحهم حياة كريمة.

الضفة الغربية: “إمارة الخليل” والحكم العشائري

ظهرت تقارير في يوليو 2025 تتحدث عن مقترحات لإنشاء إمارةعشائرية في الخليل مقابل الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، ورغمأن العشائر والخبراء الفلسطينيين رفضوا الفكرة، إلا أن مجردطرحها يكشف عن اتجاه سياسي خطير يعمل على تفكيك التمثيلالوطني عبر استبدال المؤسسات الوطنية بهياكل عشائرية محليةوتجزئة الضفة الغربية إلى وحدات عشائرية يسهل التحكم بهاأمنيًا واقتصاديًا وإضعاف الهوية الوطنية الجامعة عبر تعزيزالولاءات المحلية على حساب المشروع الوطني، هذا الطرح يعيدإحياء ما طرحه بعض الباحثين الإسرائيليين حول مشروع “الإماراتالعشائرية” كبديل عن قيام دولة فلسطينية موحدة.

لم تقتصر محاولات إيجاد بدائل أخرى والالتفاف على الأونرواوالعشائر أو الهياكل المحلية، بل شملت أيضًا المنظمات غيرالحكومية، عبر محاولة تضخيم دورها كبديل لتقديم الخدماتالمفوضية السامية لشؤون اللاجئين (UNHCR) ودمج الفلسطينيينفيها لتجريدهم من خصوصيتهم السياسية المرتبطة بحق العودة.

ومن خلال تتبع الخيط الرابط تفكيك المرجعية الفلسطينيةالجامعة من غزة إلى لبنان فالخليل، تتضح استراتيجيةواحدة:

إضعاف الأونروا: كرمز أممي لقضية اللاجئين جمع السلاح كخطوةلتفكيك خصوصية المخيمات وإنهاء رمزيتها السياسية، تعزيز الحكمالعشائري: كوسيلة لتجزئة المجتمع الفلسطيني إلى وحدات وظيفيةصغيرة.

الاستشراف: السيناريوهات المحتملة

هذه المسارات والسيناريوهات الثلاثة تلتقي عند هدفمركزي تحويل اللاجئين من جماعة سياسية موحدة ذاتقضية معترف بها دوليًا، إلى أفراد محليين يمكن إدماجهمفي مجتمعات مضيفة أو وحدات عشائرية، بما يقودعمليًا إلى التوطين وإلغاء حق العودة.

السيناريو الأول: نجاح مشاريع التفكيك عبر استمرار تعطيلالأونروا، ونزع سلاح المخيمات، وتعزيز المرجعيات العشائرية، وهوما يقود إلى تلاشي الإطار السياسي لقضية اللاجئين. الإلغاءوالاستبدال وإنهاء الوكالة رسميًا، وإحلال منظمات إنسانية أوالمجتمع الأهلي والعشائر مكانها.

السيناريو الثاني: مقاومة فلسطينية وعربية تتجسد في رفضالمخيمات تسليم السلاح دون ضمانات سياسية، وإصرار علىإعادة تمويل الأونروا، ومواجهة مشاريع التجزئة العشائرية من خلالالمقاومة الشعبية والسياسية وتمسك الفلسطينيين والعشائر والدولالمضيفة ببقاء الأونروا، واعتبارها خطًا أحمر لا يجوز تجاوزه.

السيناريو الثالث: تسويات وسطية تبقي على الأونروا بشكل محدودمع إدماج تدريجي للاجئين في المجتمعات المضيفة، وهو ما يخلقواقعًا هجينًا بين الإغاثة والتوطين. التقليص التدريجي بقاء الأونرواشكليًا مع نقل بعض خدماتها إلى الدول المضيفة، ما يؤدي إلىتآكل دورها السياسي

خاتمة

إن مشروع تفكيك اللاجئين واستبدالهم بالعشائر ليسمجرد تحوّل اجتماعي عفوي، بل هو سياسة ممنهجةتستهدف إنهاء البعد الدولي لقضية اللاجئينالفلسطينيين، فالأونروا، والمخيمات، والهوية الوطنيةالجامعة ليست مجرد قضايا إدارية أو أمنية؛ بل هيخطوط الدفاع الأخيرة عن حق العودة، ومحاولات تفكيكهاسواء عبر تعطيل الأونروا، أو جمع السلاح، أو إنشاء“إمارات عشائرية” تشكل حلقات في مشروع واحديستهدف إنهاء القضية الفلسطينية عبر التوطينوالتجزئة، وعليه فإن الدفاع عن هذه المرجعيات هو دفاععن جوهر القضية الفلسطينية وعن مستقبل حق العودة،من هنا يصبح الحفاظ على الأونروا، وعلى المخيماتكرموز وطنية، ضرورة سياسية واستراتيجية، إلى جانبتعزيز الهوية الوطنية الجامعة التي تشكل الحصن الأخيرفي مواجهة سياسات التذويب والتوطين.

المواضيع ذات الصلة
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
مفهوم المقاومة الفلسطينية وطوفانها
07 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
طوفان الأقصى عامان من الوعي المقاوم إلى ميلاد مرحلة جديدة للحقوق الفلسطينية
07 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
الخديعة الكبرى: كيف شرعنّت واشنطن ضم الضفة وخطّت تهجير فلسطين — ترامب مهندس المصيدة
02 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
المبادرة الأمريكية: غطاء للانتصار الرمزي للاحتلال أم اختبار للقوة الفلسطينية؟
02 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
‎استراتيجية الاحتلال الثابتة ضد الاعترافات بالدولة الفلسطينية
22 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
المطلوب من قادة العرب في قمة الدوحة
13 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
خدعة “المجانية” وواجب الانتصار الفلسطيني
12 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
ماذا ينتظر الخليج بعد الفخاخ الأربعة؟
12 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
الاغتيالات الإسرائيلية قوة متوهَّمة أم إقرار بالضعف البنيوي؟
10 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
مصر مركز الحسم في الصراع الإقليمي
07 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
تركيا بين التدخل الإقليمي ومسؤولياتها التاريخية تجاه فلسطين
05 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
منظمة شنغهاي والتداعيات المحتملة على واقع الحرب في غزة
02 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
اللاءات الأمريكية وثروة غزة، الجيوسياسة والبديل الطاقوي
30 Aug 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
غزة وتآكل القوة الناعمة الأمريكية عالمياً
28 Aug 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
من غيتو وارسو إلى غيتو رفح: مخطط الاحتلال لقتل وتهجير أهل غزة
24 Aug 2025