تعد مصر تاريخياً وحاضراً وسط معادلة الصراع في الشرق الأوسط، بل مثلت على الدوام نقطة ارتكاز محورية في حسابات القوى الإقليمية والدولية. بحكم جغرافيتها المتفردة، ونهر النيل، ومكانتها التاريخية في الوطن العربي والقرن الأفريقي، كلها عناصر تضع مصر في قلب التوازنات. ومن ثم، فإن محاولات إعادة هيكلة خريطة النفوذ الإقليمي يعتقد أنها لا يمكن أن تنجح ما لم تمر عبر القاهرة، سواء عبر الضغوط المائية أو الحصار الجيوسياسي أو الابتزاز الاقتصادي والسياسي.
حيث بات يدرك الإسرائيليون أن الفقر المائي يشكل تهديداً وجودياً لهم، وبالتالي سعوا مبكراً إلى المطالبة بحصة من تعادل 1٪ من مياه النيل بعد اتفاقية كامب ديفيد، الأمر الذي رفضته القاهرة باعتباره يمثل تهديداً مباشراً للأمن القومي المصري. غير أن الضغوط لم تتوقف عند حدود المطالبة، بل تطورت عبر دعم إثيوبيا في مشروع سد النهضة، وهو ما أدى إلى أزمة مائية وطاقوية مركبة بدورها انعكست على قطاعات الزراعة والصناعة والكهرباء. وفي هذا السياق، أصبح النيل ليس مجرد مورد طبيعي، بل أداة لإضعاف مصر وإشغالها داخلياً.
وعلى نحو متزامن، سعت الولايات المتحدة و"إسرائيل" إلى محاصرة مصر ضمن بيئة إقليمية مأزومة. ففي البحر الأحمر، جرى الدفع بترتيبات أمنية تستهدف تقليص دورها، بينما في المتوسط تم إعادة رسم موازين القوى عبر تحالفات الغاز. كما برز في القرن الأفريقي حضور إسرائيلي– أمريكي متصاعد هدفه تطويق القاهرة من الجنوب. ولا يغيب عن المراقبين الأزمات في كل من ليبيا والسودان، ومحاولة إيقاع الضرر بقناة السويس مستقبلاً وفي هذا السياق، لم تتوقف الخروقات الإسرائيلية لاتفاقية كامب ديفيد، لا سيما في محور فيلادلفيا ومعبر رفح، الأمر الذي يعكس مسعى لتكريس واقع جديد يتجاوز الاتفاقيات السابقة.
وبالتوازي مع ذلك، شهدت السنوات الأخيرة تحولاً في ملف الطاقة، حيث نجحت "إسرائيل" في نقل مركز الثقل من مصر إليها عبر تصدير الغاز إلى مصر وعبىها لأوروبا. هذه الخطوة لم تكن اقتصادية فحسب، بل حملت بعداً استراتيجياً خطيراً، إذ منحت تل أبيب أداة جديدة للضغط على القاهرة وربطت الاقتصاد بالسياسة بشكل مباشر وهو يعكس ممارسة الأولى لنفوذها الطاقوية على مصر ما يعد سابقة تاريخية.
ومن جهة أخرى، جعلت الولايات المتحدة و"إسرائيل" من ملف القضية الفلسطينية ورقة ضغط إضافية على مصر، حيث طُرحت مقاربات تقضي باستقبال اللاجئين الفلسطينيين في مصر كونها تمثل جزء من التسويات الإقليمية. من وجهة نظر كثيريين هذه المقاربات لم تعد تمثل تهديداً للسيادة المصرية فحسب، بقدر ما تعدّ محاولة لتوريط القاهرة في تصفية القضية الفلسطينية، الأمر الذي يتناقض مع مكانتها التاريخية ودورها القومي.
وعلى الرغم من تعدد أبعاد التهديدات التي تتربص مصر، *يظل الجيش المصري في صلب الاستهداف*، إذ تسعى "إسرائيل" والولايات المتحدة إلى تحييده أو استنزافه عبر أزمات جانبية، على غرار ما جرى مع جيوش سوريا ولبنان وإيران. وبناءً على ما سبق، *فإن أي تأخر في الاستجابة المصرية قد يمنح الخصم زمام المبادرة، بما يحوّل التحديات إلى تهديدات وجودية.*
في ضوء ما تقدم، يتضح أن مصر تمثل مركز الحسم في الصراع الإقليمي، الحسم الذي مراراً ما أشار له رئيس وزراء الاحتلال نتنياهو بأسلوب التعريض، منوهاً لعزمه تغيير وجه المنطقة بالقوة، ولعل مصر الهدف القادم ليس فقط بحكم موقعها وجغرافيتها، بل لأنها تمثل عقدة الموازنة بين مختلف القوى. وعليه، فإن استيعاب القاهرة لطبيعة هذه التهديدات المتشابكة وصياغة استجابة استراتيجية متماسكة يعدّان شرطاً أساسياً للحفاظ على مكانتها التاريخية وضمان استمرار دورها المحوري في المنطقة. وهو ما يقضي بضرورة استفادة مصر من التجربة اللبنانية والايرانية، وما آلت له الأمور بسبب التأخر في الاستجابة والاخفاق في تقدير موقف الخصم. حيث استبعدت إمكانية توجيه "إسرائيل" ضربات استباقية لهما.
