بينما تستعد الولايات المتحدة لاستقبال سلسلة من المناسبات الدولية الكبرى، مثل: قمة العشرين، والجمعية العامة للأمم المتحدة إلى جانب كأس العالم 2026، تجد نفسها أمام تحدٍ لا يُستهان به، إذ يتداخل بريق هذه الأحداث بشكل صارخ مع تراجع رمزيتها العالمية وسرديتها حول حقوق الإنسان، نتيجة الحرب الواسعة والبشعة على غزة.
وفي الوقت الذي تبدو فيه واشنطن، التي لطالما تسوّق نفسها كونها حامية "القيم الإنسانية"، عرضة لانتقادات حادة بسبب دعمها غير المشروط لحرب واسعة وآثارها الكارثية، يبرز أن خطابها حول الحرية وحقوق الإنسان صار أقرب إلى شعار انتقائي منه إلى التزام أخلاقي ثابت. هنا يصبح الشرق الأوسط مرآة قاسية تُظهر حدود القوة الناعمة الأمريكية في ظل استمرار السياسات الجائرة بحق الفلسطينيين.
*ولعله من المهم تسليط الضوء على أبرز ملامح تراجع مؤشر القوة الناعمة الأمريكية بحسب بعض التقارير ذات العلاقة* فإنه وبالتزامن مع الحرب على غزة، بدت الصورة النوعية للولايات المتحدة متأثرة بشكل واضح. وبالرغم من حفاظها على صدارة ترتيب القوة الناعمة، سجل تقرير براند فاينانس انخفاضاً ملحوظاً في سمات أساسية مثل "الصداقة"، "العلاقات الطيبة مع الدول الأخرى"، و"الأمان"، ويرجع ذلك إلى ارتباطها بالتورط في النزاعات الدولية لا سيما في الحرب الواسعة على غزة والضفة. في ظل أن هذا الواقع يعكس فجوة متنامية بين القوة الإجمالية للولايات المتحدة والانطباعات الأخلاقية والعاطفية المحيطة بدورها في الحروب.
*وهذا بدوره انعكس على الرأي العام العالمي بين 2024 و2025* حيث تراجعت النظرة الإيجابية العالمية تجاه أمريكا بشكل ملحوظ، بينما انخفض متوسط الدعم عبر الدول من 54% في 2024 إلى 49% في 2025. هذا التراجع أصبح أكثر تجلّياً داخل دول حليفة تقليدياً للولايات المتحدة.
أما إقليمياً: فإن تأثير الحرب في غزة على المنطقة العربية تجلى في نتائج استطلاعات Arab Barometer الأخيرة التي تشير إلى أن حرب غزة أثرت سلبياً على دعم التطبيع مع "إسرائيل"، ما أدى إلى تقليل الود تجاه حلفاء "إسرائيل" الغربيين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة. هذه التحولات تجعل قبول الدور الأمريكي شعبياً في الشرق الأوسط أكثر تعقيداً.
من جانب دبلوماسي: فإن آثار الدعم الأمريكي لـ "إسرائيل" ساهم على مستوى الجمعية العامة للأمم المتحدة باتساع دائرة التأييد العالمي لدعوات وقف الحرب على غزة بشكل ملحوظ بين أكتوبر 2023 سبتمبر 2024، في مقابل معارضة أمريكية متكررة لمسارات مشابهة داخل مجلس الأمن. هذا الموقف سلط الضوء على عزلة واشنطن النسبية في سياق هذه القضايا.
أما في مجلس الأمن فقد شهدت تحركات الولايات المتحدة تفاوتاً؛ حيث استخدمت حق النقض ضد مشاريع قرارات متعددة لوقف إطلاق النار. لاحقاً، دعمت مشروعاً مرحلياً بخصوص وقف النار، ما يبرز تناقضات السياسة الأمريكية مقارنة بالإجماع الدولي.
وإذا ما عدنا إلى فترة ما قبل العدوان على غزة نجد في مؤشر Soft Power 30 (2018–2019)، كانت الولايات المتحدة قد تراجعت إلى المركز الرابع ثم الخامس بسبب انتقادات لسياسة *"أمريكا أولاً"* ومواقف متعلقة بالشرق الأوسط مثل الاتفاق النووي الإيراني. ومع ذلك، استعادت صدارة المؤشرات لاحقاً، بينما بدأت مجدداً تظهر خسائر نوعية بعد الأحداث المتسارعة في غزة.
فإنه وبالرغم من الحفاظ على التفوق العالمي في القوة الناعمة الأمريكية، إلا أن التأثير الأخلاقي والشعبي الأمريكي يواجه تحديات كبيرة، خاصة بعد دعمها لـ "إسرائيل" في حرب الإبادة على غزة. بينما برزت خسائر تشمل تراجع سمات الصداقة والودّ، انخفاض الانطباعات العالمية، وبوضوح أكبر داخل العالم العربي. ردود الأفعال المؤيدة بشكل كبير لوقف إطلاق النار سلطت الضوء على الفجوة المتصاعدة بين موقف واشنطن والمجتمع الدولي بشكل عام.
وعليه، يمكن اعتبار القوة الأمريكية أقوى وفق المؤشرات الكلية، لكنها تواجه قصوراً أخلاقياً متلاحقاً في سياقات مرتبطة بالشرق الأوسط
وبالتالي على صعيد قمة مجموعة العشرين في جنوب إفريقيا المزمع عقدها في (أكتوبر 2025) المقبل، ستكون واشنطن في موضع يُطلب منه تعزيز قيادتها الاقتصادية العالمية. لكن استمرار الحرب وتداعياتها على أسواق الطاقة قد تُحوّل هذه المهمة إلى محكّ، في وقت يُنظر فيه إليها كقوة فاعلة لكنها عاجزة عن ضبط الأزمات في قلب الشرق الأوسط.
أما في الجمعية العامة للأمم المتحدة (سبتمبر 2025)، فالخطاب الأمريكي تحت رقابة دولية غير مسبوقة. فإن خصوم الولايات المتحدة يستثمرون ملف غزة لكشف التناقض بين المبادئ المعلنة والممارسات القائمة على المصالح، بحيث تتعدى الانتقادات السياسية لتصل إلى التشكيك في أهليتها الأخلاقية لقيادة النظام الدولي.
وعلى صعيد مونديال 2026، تعوّل واشنطن على هذه المنصة لإظهار صورتها المنفتحة والمتنوعة. لكن الاحتجاجات وحملات التضامن المرتبطة بغزة قد تحوّل الملاعب إلى ساحة للنقد الدولي المفتوح، ما يكشف محدودية قدرة الإدارة الأمريكية في التحكم بالسّردية العالمية.
في ضوء هذه المعطيات تتجلى لحظة مفصلية تجمع بين بريق الاستضافة والخسارة الرمزية. فالقوة الناعمة الأمريكية لم تعد تُلهم كما في السابق، بل ظهرت تناقضاتها بشكل لافت، ما يهدّد بخسارة جزء كبير من رأس مالها الرمزي، حتى وهي تحتضن أضخم التظاهرات العالمية.














