أعتقد هناك فرق عندما تكون الدول والكيانات مستقرة وبين أن تكون مهددة، فغالباً الدول والكيانات المستقرة والمرتاحة على الصعيدين السياسي والاقتصادي، لا تمثل بالضرورة تهديداً استراتيجياً بقدر ما تمثله غير المستقرة من تهديد لمصالح الغير، كونها تمتلك دوافع كبيرة للتغيير وجرأة في الانقلاب على الواقع المحيط بها، بغية تغيير واقعها، وإثبات ذاتها من جهة، وتجاوز فكرة كسرها واخضاعها من جهة أخرى.
أو أنها على أقل تقدير تود إقناع العالم عبر توظيف موارد قوّتها المتعددة أنها تستطيع فعل ما يجب فعله من أجل تحقيق مصالحها العليا، غير آبهة بالتهديدات أو النتائج والأثمان.
ذلك يجعلنا نتخيّل المشهد السياسي ويكأنه يتحول لحلبة مصارعة كلما تلقى طرف ضربة تجده ينهض أكثر شراسة واندفاع كي يوجه لكمه موازية من حيث الفعل ورد الفعل، وذلك بفضل سلوك أمريكا التي تُصِرّ على أن يرى العالم فقط ما تراه.
وعليه فإنّ؛ التقديم أعلاه يجعل المتابع يفسّر السلوك الأمريكي على أنه نابع من حالة رُهاب عميقة ومتعددة الأوجه قد تكون تملّكت تفكير ووجدان الطرف المهيمن وتحديداً على صعيد تأثير هيمنته عالمياً.
يوازي ذلك؛ أنها طرأت مخاوف قد تكون معقولة إزاء ظهور مستجدات من شأنها الدفع نحو أُفول هيمنة القطب الأحادي على مدى ليس ببعيد، تحديداً أن كثيرون من علماء السياسة الدولية يعتبرون أن هيمنة القطب الواحد أصبحت لا تتوافق مع تحديات ومتطلبات وطبيعة العصر الحداثي الحالي بل وأيضاً المستقبلي.
وعليه فإن؛ الولايات المتحدة الأمريكية ذات "الميكانزيم الصراعي" يبدو أنها منذ زمن مبكر تدرك تلك المخاطر التي تتهددها كقوة عالمية مهيمنة مستحوذة على النظام العالمي بالإكراه والإغراء.
ولذلك هي تسارع الخطى جاهدة دون الاكتراث لعواقب سلوكها واضعةً العراقيل الأكثر تعقيداً وجنوناً لقطع الطريق على الصعود الصيني ولعل من أبرز تلك العراقيل؛ تأجيج الصراعات العرقية، والإثنية، والطائفية، والسياسية، في مواجهة طريق التنمية الاقتصادية الصيني المزمع شقّه "الحزام والطريق"، بل إنها تعيد إحياء بل إذكاء كل الخلافات التي من شأنها عرقلة مشاريع الصين التنموية العابرة للقارات.
في خطوة استباقية لتنفيذ خطة الدرج المعدة لديها بشأن إعادة صياغة وتشكيل أنساق القوى الدولية والإقليمية واحداث متغيرات جغرافية وديموغرافية تسمح لها استعادة دورها المهيمن، ووقف تراجع نفوذها الدولي لصالح منافستها الصين.
وهو ما يراه باحثين ومراقبون ويفسّر بالضرورة الأزمات التي تم ويتم إشعالها في كل من دول أفريقيا وآسيا مروراً بمنطقة الشرق الأوسط وصولاً إلى حدود أوروبا المتعددة.
وليس عنّا ببعيد محاولة اللعب مؤخراً بورقة "إقليم كشمير" المتنازع عليه في محاولة لزج الهند في أتون حرب مع جارتها باكستان من خلال إغراء الهند بأنها بديلاً اقتصادياً عن الصين، وكونها جزء من الطريق الأمريكي "الهند أوروبا" الموازي للطريق الصيني "الحزام والطريق"، وترهيب باكستان بوضع مزيد من القيود على مشاريعها الإستراتيجية.
وبالتالي إنّ إذكاء الصراع بين الهند وباكستان يحقق هدف قطع الطريق على الصين وحرمانها من الوصول لبحر العرب من خلال الممر التجاري الذي يصل إلى ميناء غوادر بباكستان، علماً أن إقليم كشمير هو على الحدود ما بين الصين وباكستان، وبدون وجود هذا الجزء من الإقليم مع باكستان لن تتمكن الصين من شق حزامها وطريقها نحو أوروبا مروراً بأفريقيا والشرق الأوسط.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه؛
هل تأجيج الصراع بين الهند وباكستان يخدم مصالح أمريكا المتمثلة بإحياء مشروعها الموازي في ظل عدم وجود استقرار إقليمي؟!
أم أن ذلك يدفعنا لبحث ومناقشة حقيقة مشروع الطريق الأمريكي، بمعنى أكثر دقة - هل المشروع واقعي وتم رصد خطة عمل حقيقية له؟
أم أنه مشروع وهمي تم تصديره للعالم عبر دبلوماسية الفوتوشوب، وخديعة الغرض منها فقط قطع الطريق على الصين وتوظيف الدول مثل الهند وغيرها في أقاليم أخرى مثل (الشرق الأوسط) لتحقيق الهدف الأمريكي المنشود، دون أن تتسخ يداها، وتكون بذلك قد (التقطت جمرة الصين بملقط الهند وحلفائها في الأقاليم الأخرى)؟!
على صعيد آخر؛ ما هو مثير في المشهد ذهاب الإدارة الأمريكية برئاسة ترامب اتجاه احتواء الدب الروسي على حساب أكرانيا والإتحاد الأوروبي، علّها بذلك تستطيع عزل الصين عن جارتها روسيا، وكذلك حرمانها من الاستمرار في استثمار الحرب الروسية الأكرانية لخدمة تمرير أهدافها الجيواقتصادية والجيوسياسية.
بموازاة ذلك؛ نلاحظ السعي الحثيث نحو تقديم أمريكا صفقة للإيرانيين ممزوجة بتنازلات أمريكية من شأنها ضمان امتلاك طهران مشروع طاقة نووية سلمي بالإضافة لخلق نوع من التقارب الاقتصادي عبر تشجيع الاستثمار الأمريكي في إيران.
في مقابل ذلك؛ ضمان وقف دعم الأذرع المسلحة في اليمن، العراق، ولبنان لأجل تبديد مخاوف "اسرائيل" وشراء صمتها.
أتى ذلك بعدما نجحت أمريكا عبر حليفتها في الناتو (تركيا) في حصر النفوذ الإيراني في سورية. أنقرة التي تشارك واشنطن الانتقاد الحاد للسلوك الصيني العنصري مع الأقلية الأيغورية الصينية.
بينما الضحية هي سورية، الدولة ذات الأهمية في نظر الصين والركيزة الأساسية لإنجاح مشروع أنابيب نقل النفط والغاز عبر أراضيها، نظراً لأن سورية تمثل جزء أصيل يشمله مشروع الصين (الحزام والطريق)، ها هي تُزجّ تارة أخرى في أتون صراع الأقطاب العالمية المتنافسة.
وفي الوقت نفسه تَحوّل بمعية أمريكا تصنيف بعثتها الدبلوماسية في الأمم المتحدة من دولة ذات عضوية دائمة في الهيئة إلى حكومة مؤقتة وغير معترف بها، كي تبدو تربة خصبة للصراعات المقبلة.
باعتقادي؛ يؤشر ما سبق؛ على أنه لم يكن خلاص السوريين من نظام الأسد وحصر النفوذ الإيراني هو الغاية الأمريكية الأسمى بقدر ما كان الرهان الأمريكي على تضيق الخناق على إيران كمقدمة لاحتوائها، وابعادها عن الصين هذا ابتداء.
البديل الآخر يتمثل في خلق سورية منهارة، وضعيفة وتصديرها على أنها أصبحت فراغ.
وبالتالي تصبح بمثابة بؤرة خصبة للصراعات الإثنية والعرقية الممتدة التي إذا ما تم إذكاؤها وتأجيجها حتماً ستخدم أهداف أمريكا في كبح التقدم الصيني.
هذا بدوره لا يَستَثنى دور الحليف الأبرز لواشنطن في المنطقة "اسرائيل" التي يتجاوزها الطريق الصيني الواعد بالرغم من العلاقات والشراكة بين الطرفين والتي تراجعت بنسبة مرتفعة بعد السابع من أكتوبر 2023.
ويتمثل الدور "عبر جلب تدخل إسرائيلي من خلال بث سردية الدفاع عن الأقليات السورية المضطهدة".
وبالتالي؛ الغاية الأسمى مما ذُكر هو:
تحقيق عدة مكتسبات أهمها حرمان الصين من النفط الإيراني الذي تستورده بأثمان أقل مما هو معروض. حيث تعدّ الصين أكبر مستورد للنفط من إيران، وكذلك أكبر مستهلك للنفط عالمياً، وهو بلا شك ما سيعيق خطوط الانتاج لديها، ويقطع سلاسل توريد النفط إليها. حيث يعرف عن سوريه أنها أرض الأنابيب الوصولية.
لكن السؤال المقابل:
بعيداً عن نسق المقال، إذا ما نجح هذا الاتفاق ما بين واشنطن وطهران هل يبقى ما يبرر تطبيع الدول العربية وتحديداً دول الخليج العربي مع "إسرائيل" في ظلّ أن إيران قد تصبح لا تمثل تهديداً لأمريكا وكذلك لحلفائها؟ أم أن إيران مجرد ذريعة والتطبيع أهدافه غير المعلنة أبلغ من المعلنة؟
السؤال الآخر: هل ستقبل "إسرائيل" بهذا الاتفاق؟
أم أنها ستقبل الصمت؟
وهل سيُفَسَّر صمتها على أنه خوف من رد الفعل الأمريكي؟
أم أن دورها الوظيفي يُحتّم عليها تمرير ذلك، وأنّ كل ما يطلقه ساستهم هو مجرد بروبوغاندا مجافية للواقع؟
بموازاة المسار السابق نجد الإدارة الحالية بقيادة الرئيس دونالد ترامب تذهب في سلوكها لحد المغامرة المتمثلة برفع قيمة التعرفة الجمركية على المنتجات الواردة للولايات المتحدة الأمريكية من دول العالم، التي سرعان ما تحوّلت لمناورات تفاوضية تهدف لجلب الدول للتفاوض وابتزازهم من خلال وضع شروط في مقابل تعليق أو تجميد وليس إلغاء تلك الإجراءات مقابل المساهمة في عرقلة جهود الصين الاقتصادية الدولية، وتقييد تحركاتها ضمن مجالات تلك الدول.
السؤال المقابل لذلك: هل سيبقى رصيد أمريكا من ثقة الدول وتحديداً الصديقة والحليفة ما يسمح لاستجابة تلك الدول لمطالبها؟!
وإلى أي مدى يمكن لتلك الثقة الصمود أمام أنانية الولايات المتحدة قبل أن تفك تلك الدول ارتباطها بها؟
الخلاصة؛ بالرغم من الشعور بالرهاب الشديد من حالة الصعود الصيني لدى صنّاع القرار الأمريكي، وهم ربما يكونوا معذورين، وهذا بطبيعة الحال ما قد يدفعهم لممارسة سياسة "حافة الهاوية" التي تُظهر أمريكا كـ "قاطع طريق" أكثر من كونها دولة مسؤولة.
إلا أنه ينبغي عليهم أخذ العبرة والدرس من التاريخ، وإن كان ولابد؛ يمكنهم محاولة إعادة صياغة مصالحهم بما يتوافق مع النظام العالمي الناشئ بشكل عادل يراعي أنساق القوى وبما يحفظ حقوق الدول، من خلال بث روح التعاون، وحلّ القضايا بطرق أكثر دبلوماسية.
برأي الكثيرين هذا هو غالباً ما يضمن مصالح الولايات المتحدة الأمريكية، بعيداً عن تأجيج الصراعات والأزمات والحروب، كون الخاسر هو: العالم بأسره، وليس طرفاً بعينه فقط، وهذا بدوره لن يضمن سلامة أمريكا ومصالحها المختلفة بلا شك.
هذا من شأنه أن يُمثّل قوة دفع قوية ممزوجة بروح أكثر صلابة وجرأة نحو طريق الخلاص ومحاولة اقتلاع جذور الهيمنة القمعية المجحفة، القائمة على الأنا وإقصاء الآخر.














