خيارات أحلاها علقم
31 May 2025

بين عشية وضحاها، انقلبت ورقة ويتكوف، الذي حاول في البداية أن يوازن بين متطلبات إنسانية لقطاع غزة ورغبات إسرائيلية في تحرير الأسرى وإبرام صفقة جزئية، يجري التفاوض خلالها بشكل جاد حول شكل "اليوم التالي" للحرب.

وهي ورقة وافقت عليها حماس وأعلنت ذلك في بيان صحفي، وبشكل سريع بدأت وسائل الإعلام العبرية بالإفصاح عن رفض إسرائيل لما قبلت به حماس، معتبرة إياه تنازلًا وهزيمة أمامها.

بعد تلك الأنباء، خرج المبعوث الأمريكي ويتكوف في تصريحات تفيد بصياغة، ورقة جديدة وتقديمها لحماس والاحتلال. وسارع الرئيس ترامب إلى دعوة الأطراف لقبولها دون تردّد.

لكن الصياغة الجديدة، وفق مطّلعين ومحللين، تمّت صناعتها في اجتماع ديرمر ويتكوف في واشنطن، كمقابل لتراجع إسرائيلي مؤقت عن ضرب إيران، وتعهد ديرمر بقبول نتنياهو لتلك الورقة المصنوعة بيده.

كانت سرعة الرد الإسرائيلي بالموافقة لها عديد المؤشرات والدلائل، أبرزها أن الورقة مصنوعة وفق الرغبة الإسرائيلية. وثانيها، وفق ما صرّحت به بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية، أن التقديرات الاستخبارية تفيد بأن حماس لن تقبل بها. وبالتالي، فإن القبول الإسرائيلي، بصرف النظر عن جديته، يرمي بالكرة في ملعب الطرف الفلسطيني، وأيّ رفض سيمنح نتنياهو شرعية لاستمرار الحرب وتهدئة الضغط الداخلي بزعم أن حماس هي من ترفض المفاوضات وأنها غير جادة.

كما بدأت وسائل إعلام عربية وعبرية بضخ إشاعات وأخبار لا صحة لها بأن حماس قد قبلت بالورقة، وأن رئيس حماس في غزة، خليل الحية، سيعقد مؤتمرًا صحفيًا مساء الخميس للإعلان عن الموافقة. جاء ذلك في محاولة للضغط على الحركة من الشارع المنهك والمتعب، الذي باتت كلمة "الرفض" صعبةً عليه وثقيلةً جدًا مع استمرار الجوع والحصار والنزوح والدمار وشلال الدم.

أما في الموقف الفلسطيني، الذي تسلّم الورقة الجديدة بعد قبولها إسرائيليًا (وفق ما أعلن البيت الأبيض)، فقد صرّح قياديون في حماس بأن المقترح الجديد لا يلبّي أيًا من المطالب الفلسطينية المشروعة. وعلى الرغم من ذلك، فإن الحركة لم تُعلن رفضها للورقة، بل لا تزال حتى كتابة هذا المقال تدرسها بدقة شديدة وتراجع كل بنودها، على الرغم من سلبياتها وتنصّلها من تلبية المطالب الفلسطينية.

فالورقة لا تضمن وقفًا للحرب، ولا ضمانًا للانسحاب الإسرائيلي، ولا ضمانًا لتدفق المساعدات بشكل يومي. بل ترهن الأمر للمزاج والتقييم الإسرائيلي، تحت مسمّيات مختلفة كالتقييم الأمني، وحسن النية، والانتهاكات، والاختراقات، والعديد من المسميات التي يتلاعب بها الاحتلال ويبرّر أفعاله من خلالها.

وكما ذكرت سابقًا، فإن حماس لم تسارع في رفض الورقة، لعديد الأسباب؛ أبرزها الإنهاك الذي وصل إليه الشعب الفلسطيني. فقد بدأت أصوات عديدة تخرج من أبناء الشعب ومن بعض نخبه، تدعو الحركة للقبول بالورقة وقطع الطريق أمام نتنياهو لاستمرار إبادة الشعب الفلسطيني، وكسب الود الأمريكي والدعم الأوروبي. هذه الدعوات قد تكون مبررة من شعب جاع وقُتل ودُمّر وفقد أحبابه منذ أكثر من 19 شهرًا.


في المقابل، طالب قسم آخر من أبناء الشعب برفض تلك الورقة؛ فلا أحد يطيق أن يتكرر ما حدث في الصفقتين السابقتين. فما إن يتنفس الناس الصعداء، حتى تعود الحرب بشكل أكثر تدميرًا وقوة. ودليلهم على ذلك أن نتنياهو صرّح علنًا بأنه يقبل الصفقة الجزئية وسيعود للحرب مجددًا.

كما أن الرهان على الضمان الأمريكي مشكوك فيه، والاعتماد على الوسيط العربي لا يُنصح به؛ فهو ضعيف أمام رغبة نتنياهو بإبادة غزة وتهجير أهلها.

وبين هذا وذاك، تجد فئة من الشعب ونُخبه تنادي بتقديم الرد: "نعم، ولكن"، بمعنى أن تقدم الحركة ملاحظاتها على الورقة الأمريكية التي صاغها المفاوض الإسرائيلي ديرمر في أروقة واشنطن. أي بمعنى: ألّا تُنسف المبادرات، بل تُحاول جلب ضمانات لتنفيذ الاتفاق، وإن كانت شفهية على الأقل.

وما بين هذا وذاك، فإن القبول بالمقترح – وفق قراءة السلوك الإسرائيلي – على الرغم من إيجابياته بقطع الطريق أمام "عربات جدعون" ووقف شلال الدم، وفتح فرص للتوصل إلى اتفاق وقف النار، فإنه يفيد الاحتلال أكثر من الفلسطينيين. فهو يخفف الضغوط الداخلية على نتنياهو، وأبرزها أزمة تجنيد الحريديم الذين بدأوا ينادون بالانسحاب من الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة خلال الأيام القادمة.

كما يمنح نتنياهو مزيدًا من الأصوات التي خسرها في استطلاعات الرأي السابقة؛ إذ سيُسوّق تلك الصفقة بأنها نتاج الضغط العسكري، وأن سياسته هي الناجعة والأفضل، رغم المعارضة له.

كذلك، فإن مردودها سيفتح شهية الاحتلال للمطالبة بشروط أكثر قسوة من المُعلنة، مثل مسألة سحب السلاح، ونفي قادة حماس من القطاع. وقد يطرح أيضًا ملف الهجرة، والمناطق العازلة، والتدخل الأمني غير المشروط في القطاع. وإلّا، فالعودة مجددًا لضرب القطاع وتكرار السيناريو ذاته؛ فنتنياهو معنيٌّ بشكل كبير باستمرار حالة الحرب، كونها تخدم أهدافه الشخصية قبل كل شيء.

أما رفض المقترح، فعلى الرغم من سلبياته المتمثلة في استمرار الحرب، وقضم مزيد من الأراضي، ومحاولات التهجير، والترويج لمشروع المساعدات كبديل للمنظمات الدولية، فإنه سيعمق الخلافات الداخلية. كما سيدفع نتنياهو إلى استمرار الحرب وزيادة شدّتها، ما يعني مزيدًا من الأزمات المالية وأزمات التجنيد، فضلًا عن العزلة الدولية، مع بدء حراك فعلي أوروبي قد يحرك الجبهة العربية، التي لا تزال تقف موقف المتفرج.

وبالتالي، ستكون هناك خسارة كبيرة في الشرعية، ومزيد من ملفات التحقيق والملاحقة كنتيجة لحرب الإبادة، وخسارة قد تكون متوقعة في صفوف الأحياء من الأسرى لدى المقاومة.

وعليه، فإن الخيارات أحلاها علقم، ولكن علقم الصمود أسهل بلعًا من علقم الاستسلام والهزيمة.

المواضيع ذات الصلة
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
مفهوم المقاومة الفلسطينية وطوفانها
07 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
طوفان الأقصى عامان من الوعي المقاوم إلى ميلاد مرحلة جديدة للحقوق الفلسطينية
07 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
الخديعة الكبرى: كيف شرعنّت واشنطن ضم الضفة وخطّت تهجير فلسطين — ترامب مهندس المصيدة
02 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
المبادرة الأمريكية: غطاء للانتصار الرمزي للاحتلال أم اختبار للقوة الفلسطينية؟
02 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
‎استراتيجية الاحتلال الثابتة ضد الاعترافات بالدولة الفلسطينية
22 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
المطلوب من قادة العرب في قمة الدوحة
13 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
خدعة “المجانية” وواجب الانتصار الفلسطيني
12 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
ماذا ينتظر الخليج بعد الفخاخ الأربعة؟
12 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
الاغتيالات الإسرائيلية قوة متوهَّمة أم إقرار بالضعف البنيوي؟
10 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
من الأونروا إلى إمارة الخليل: استراتيجيات تفكيكالمرجعية الفلسطينية واستشراف مآلاتهام
07 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
مصر مركز الحسم في الصراع الإقليمي
07 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
تركيا بين التدخل الإقليمي ومسؤولياتها التاريخية تجاه فلسطين
05 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
منظمة شنغهاي والتداعيات المحتملة على واقع الحرب في غزة
02 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
اللاءات الأمريكية وثروة غزة، الجيوسياسة والبديل الطاقوي
30 Aug 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
غزة وتآكل القوة الناعمة الأمريكية عالمياً
28 Aug 2025