العين في خاصرة الفولاذ: حجارة داوود وسيناريو الضرب في النقطة العمياء
03 Jul 2025

بعد نحو عشرين شهراً من العدوان المتواصل وفي ظل مقاومة فلسطينية لا تزال تحارب على جبهاتمكشوفة، لم تُنجز "إسرائيلإنجازاً استراتيجياً يضاهي ما حققته في جبهات مثل لبنان وإيران، حيث أن"حجارة داوودقد قلبت الطاولة بإطلالة مفاجئة على قلب المنظومة الأمنية الصهيونية، أُسقطتدبابات، دُمّرت مدرّعات، وسقط جنود في مناطق اعتُبر فيها الفولاذ الكامن حصناً لا يُخترق.

في مواجهة هذه الهزائم المتتالية، بدأ صوت الخبراء الصهاينة يتردّد بمنتهى الصراحة من تحذيريديعوت أحرونوت برفض "التشتت والانجرار إلى تصعيد غير مخطط له"، إلى قول إيال بركوفيتش إنأداء نتنياهو الصحفي مجرد صدى لجنود يسقطون في غزة، هذه الأصوات لم تقطع الصمت بل كسرتالخوف من الاعتراف بأن المقاومة صنعت من النقطة العمياء نقطة قوة، ومع هذه الدينامية، يبرز سؤالقاسٍكيف استطاعت غزة رغم الحصار، وفي ظل أجهزة استخبارات معنية بالإبادة، وتفوق صهيوني هائلفي الأسلحة أن تمنح نفسها عيناً داخل خاصرة الفولاذ الصهيوني؟

لم تعد ضربات المقاومة في غزة مجرد ردود فعل آنية علىعدوان الاحتلال، بل باتت تعبيراً عن هندسةعملياتية واعية تقلب معادلة الردع وتحفر في خاصرة المنظومة الصهيونية فجوة تتسع يوماً بعد يوم، فيالعمليات الأخيرة ضمن سلسلة "حجارة داوود"، لم يكن التوقيت مصادفة، ولا الزاوية بلا حساب، بلاختيرت نقاط التنفيذ لتُصيب ما يمكن وصفه بالنقطة العمياء داخل منظومة الاحتلال العسكرية،فعمليات الضرب من الخلف، القنص من فجوات الارتداد، والهجوم على دبابات محصّنة بغطاء جوي،كلها لم تكن مغامرات ميدانية، بل ثمرة تطوّر نوعي في الفكر العملياتي للمقاومة، الذي تجاوز مرحلة ردّالفعل إلى مرحلة الاختراق المقَاوِم، حيث تُهاجم أهداف بعينها، في توقيت مدروس، وضمن منظومةقيادة وتحكم ميدانية تفرض حضورها على الأرض، وهذا التحول يؤشر إلى أن المقاومة في غزة لم تُهزَمرغم ضراوة الحصار والعدوان، بل تتطوّر في قلب المعركة، وتُعيد تعريف الذكاء العسكري من منظورالبندقية المحاصرة.

لم تكن مشاهد تفجير المدرّعات شرق خانيونس عادية، إنها صور تُشبه الكوابيس التي لا يريد العدو أنيراها تتكرّر، لكنها وقعت، بالصوت والصورة ووضوح العبوة، مقاتل يتسلّق آلية متطورة ويلقي داخلهاعبوة ناسفة تُحوّل الدبابة إلى كتلة نار، وسرعان ما تتوالى الصفعات في نفس الموقع، ما جعل المحللالعسكري في قناة 14 العبرية نوعم أمير يقول: "لقد شاهدت للتو الفيديو المروع لكارثة بوما شرقخانيونس يجب على رئيس الأركان الاتصال بقائد الفرقة 36 وإرساله إلى المنزل".

هذا الانهيار في الأداء العسكري الصهيوني لم يكن وليد خطأ ميداني منفصل، بل نتيجة تآكل مستمر فيالثقة والجاهزية، يُقرّ بذلك -المحلل الإستراتيجي والضابط السابق في جهاز الاستخبارات (أمان)- ميخائيل ميلشتاين حين يصف حرب غزة بأنها: "الأكثر مرارة وتبايناً بين الأهداف والواقع"، مشيراً إلى أنحرب الاحتلال في غزة تعاني من غياب الهدف الاستراتيجي، وانعدام الجدول الزمني، وتآكل القدرة علىالحسم.

ووسط هذه الاعترافات تُعيد المقاومة صياغة مشهد المعركة، إذ تحوّلت دبابات الاحتلال إلى أهدافقابلة للتدمير، وخسائر جيشه في الأرواح باتت مدخلاً لإعادة النقاش داخل "إسرائيلحول جدوى البقاءفي غزة، وكما قالت صحيفة معاريف، فإن ما جرى شرق خانيونس هو: "تقصير خطير يصل حتى أعلىالمستويات القيادية"، وهكذا، لم تكن "حجارة داوودمجرد عمل تكتيكي، بل لحظة اختلال توازنحقيقية في حسابات الاحتلال، تجعل من كل دبابة متقدمة هدفاً مرصوداً، ومن كل خطوة برية مقامرةسياسية قد تُكلّف "إسرائيلما تبقى من صورة الجيش الذي لا يُقهر.

بينما تقف إيران -الدولة النووية ذات الثقل الإقليميعلى حافة المواجهة ثم تعود إلى طاولة التفاوضبتفاهمات ظرفية، تقف غزة المحاصَرة منذ عقدين -بغرف عملياتها تحت الركام، وعتادها المصنع فيأقبية البيوتعلى جبهة النار، وتُوقّع بدم شهدائها توقيت الاشتباك، لا شروطه فقط.

المفارقة فادحة ومُحرجة للمؤسسة الصهيونيةفبينما تباهى إعلام الاحتلال بما وصفه بـ"قطع رأسالمنظومة الإيرانية"،إذا بالميدان يفضحهم، إذ أن غزة التي لا تملك طيراناَ ولا نظام رادار، تُسقط قتلى فيصفوف القوات النخبوية للاحتلال، وتنسف دبابات الميركافا بعبوات يدوية الصنع، هنا تتجلّى معادلة ردعالمقاومة في أقوى صورهاليست الكلمة لمن يملك القوة، بل لمن يُحسن توظيفها، ويجعل من الأرضسلاحاً لا ساحة استنزاف.

وفي المقابل، تُحاصر إيران استراتيجياً في هلال سياسي طويل، لكنها تمضي نحو ما يسميه العدوبـ"الهدنة الضرورية"، إذ قال ميخائيل ميلشتاين: "التمسك الأعمى بهدف تدمير المشروع النووي الإيرانيقد يُغرق إسرائيل في حرب استنزاف طويلة، يجب تجنب التصعيد غير المخطَّط له"، هنا يتضح أن غزة لاتُردع رغم الحصار، بينما إيران تردع ذاتها رغم السلاح، ليغدو التوصيف الدقيقعجز القوة النووية مقابلبراعة المقاومة منخفضة التكاليف.

ما يجري الآن ليس فقط فشلًا عسكرياً متكرراً، بل هشاشة استراتيجية معلنة داخل البنية الصهيونية، إنسقوط سبعة جنود دفعة واحدة في شرق خان يونس، وتحوّل دباباتهم إلى توابيت حديدية، ليس حادثاًعابراً، بل كسر فعلي لنموذج الردع الصهيوني التقليدي، قال اللواء الصهيوني المتقاعد إيفي إيتام: "مايحدث في غزة، بما في ذلك كارثة الأمس، مرتبط بضعف جهاز الشاباك هذه مسألة حياة أو موت"، وأماالمحلل العسكري آفي أشكنازي، فوصف الكارثة بأنها: "تقصير خطير يصل حتى أعلى المستويات،استنزاف لا يُحتمل للقوات، ومأساة يجب أن تهز الجمهور الإسرائيلي".

الردع الصهيوني الذي طالما بُني على نظرية الصدمة والحسم السريع، تحوّل إلى نظرية الضياع فيالمتاهة، لا تعرف هدفها، ولا تملك زمام توقيتاتها، هذا هو ردع الانهيار، حين يفقد الجيش زمام التفوقالنفسي قبل أن يخسر ميدانه، وحين تصبح النقطة العمياء التي تضرب منها المقاومة، هي مركز الثقلالذي يتهاوى عليه جدار الردع، في هذه اللحظة المقاومة لا تواجه فقط جندياً في الميدان، بل تعرّي وهمالمؤسسة الأمنية الصهيونية، وتُرينا هشاشتها المركّبة، لا في ساحة غزة فقط، بل في الوعي الاستراتيجيالصهيوني ذاته.

العمليات النوعية الأخيرة التي تمّت بعد أكثر من 600 يوم من العدوان، وتحديداً في وقت تُراهن فيه"إسرائيلعلى إنهاك الميدان، كشفت عن إعادة هندسة داخلية لقدرات المقاومةعبوات يدوية،اختراقات برية، تكتيك الضرب في النقطة العمياء، واستنزاف نفسي وعسكري متكرر، باتت المؤسسةالعسكرية الصهيونية أمام ما نسميته بالهندسة الأمنية المعادَةمراجعة للمنظومة البرية، وإعادة تقييملنقطة الحسم، وتصاعد واضح في التباين بين الجبهة السياسية والقيادة العسكرية، وكما كتب ميخائيلميلشتاين بصراحة غير معهودة: "ما يحدث في غزة هو الفجوة الأخطر بين الأهداف والواقع يجب تفاديتكرار أخطاء هذه الجبهة"، وبكلمات أخرى، "إسرائيلالتي كانت تظن أن النار في غزة ستخبو من ذاتها،باتت اليوم أمام إعادة موازنة الردع، حيث يُملي الطرف المقاوم شروط المعركة، ويُربك الحساباتالكبرى.

نعم.. لقد غيّرت غزة الموازين عبر مراكمة الوعي، والصبر، والتكتيك المقاوم، في زمن تتوزع فيه أوراقالضغط بين صرامة القاهرة، ومناورات الدوحة، وتنسيقات عمّان، تُدار جبهات غزة في عواصم لا يسمعفيها صوت الأنقاض ولا رائحة الدم، وتهدأ فيها الجبهات النووية، تُبقي غزة بمقاتليها الجائعين وبنادقهاالمستورة بالتراب شعلة المواجهة حية.

إن سلسلة "حجارة داوودليست مجرد حلقات في مسلسل عملياتي، بل مفصل زمني يعيد تعريفالمقاومة كفاعل استراتيجي قادر على كسر الخطاب الصهيوني وهندسة الردع المضاد، وإذا كانت "العينفي خاصرة الفولاذ"، فإن هذه العين لن تُغمض، ما دام في الأرض مقاوم يرفض الركوع، ويعرف جيداًكيف يحوّل الفجوات إلى نوافذ للانتصار

المواضيع ذات الصلة
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
مفهوم المقاومة الفلسطينية وطوفانها
07 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
طوفان الأقصى عامان من الوعي المقاوم إلى ميلاد مرحلة جديدة للحقوق الفلسطينية
07 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
الخديعة الكبرى: كيف شرعنّت واشنطن ضم الضفة وخطّت تهجير فلسطين — ترامب مهندس المصيدة
02 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
المبادرة الأمريكية: غطاء للانتصار الرمزي للاحتلال أم اختبار للقوة الفلسطينية؟
02 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
‎استراتيجية الاحتلال الثابتة ضد الاعترافات بالدولة الفلسطينية
22 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
المطلوب من قادة العرب في قمة الدوحة
13 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
خدعة “المجانية” وواجب الانتصار الفلسطيني
12 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
ماذا ينتظر الخليج بعد الفخاخ الأربعة؟
12 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
الاغتيالات الإسرائيلية قوة متوهَّمة أم إقرار بالضعف البنيوي؟
10 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
من الأونروا إلى إمارة الخليل: استراتيجيات تفكيكالمرجعية الفلسطينية واستشراف مآلاتهام
07 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
مصر مركز الحسم في الصراع الإقليمي
07 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
تركيا بين التدخل الإقليمي ومسؤولياتها التاريخية تجاه فلسطين
05 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
منظمة شنغهاي والتداعيات المحتملة على واقع الحرب في غزة
02 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
اللاءات الأمريكية وثروة غزة، الجيوسياسة والبديل الطاقوي
30 Aug 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
غزة وتآكل القوة الناعمة الأمريكية عالمياً
28 Aug 2025