كان قيام كيان الاحتلال الإسرائيلي في 15 مايو/ أيار عام 1948 محطة متقدمة وأساسية لتطور المشروع الصهيوني، الذي كانت محطته الأولى انعقاد مؤتمر بال (بازل) في سويسرا عام 1897 والذي دعا طبقاً لأطروحات هيرتزل الأب الروحي للصهيونية، إلى تأسيس دولة يهودية كما ورد في كتابه "دولة اليهود" أما المحطة الثانية فقد كانت وعد بلفور الذي أصدره وزير خارجية بريطانيا عام 1917 القاضي بمنح اليهود وطنا قومياً في فلسطين، وهو وعد "من لا يملك لمن لا يستحق"!
وكانت أخطر المحطات وأكثرها حسماً لبلورة انطلاقة جديدة للمشروع الصهيوني هي صدور قرار التقسيم من الأمم المتحدة الذي على أساسه تم تأسيس كيان الاحتلال على نحو مشروط من جانب الأمم المتحدة مع تأكيد احترامها لميثاقها الداعي إلى حفظ السلم والأمن الدوليين، لكن ذلك كلّه كان مناورة لكسب الرأي العام وللسيطرة على المزيد من الأراضي الفلسطينية وطرد عرب فلسطين من وطنهم. إننا أمام كيان ينتهك القانون الدولي أمام مرأى ومسمع من العالم أجمع، ويشرِّع انتهاكاته بقوانين عنصرية، وبمشاركة كافة مركبات النظام السياسي فيها، ويتصرف على أنه فوق القانون وخارج نطاق الملاحقة أو المحاسبة، وسعى إلى ترسيخ ثقافة "الإفلات من العقاب" ليس فقط لمن يعملون في الأجهزة الأمنية وإنما أيضا لدى كل "الإسرائيليين"، مما يدفعهم إلى التمادي في سلوكهم الشاذ والعنصري تجاه الشعب الفلسطيني، حيث انتهج العديد من السياسات التي تهدف لإخضاع الفلسطينيين، كان أبرزها أَسْر الفلسطينيين والتنكيل بهم.
تعد سياسة الاعتقال أو الأسر واحدة من السياسات القمعية التي استخدمها الاحتلال بضراوة لإخضاع الشعب الفلسطيني ودفعه إلى التراجع أمام آلة البطش التي يستخدمها. وتهدف هذه السياسة إلى إذلال السجناء وذويهم ودفعهم إلى التفكير ملياً قبل اللجوء إلى العمل المقاوم ضد الاحتلال، ومن ثم إبعاد الناس عنه وتحطيم معنويات الشعب بأكمله. إن قضية الأسرى تعتبر جزءاً أساسياً من نضال حركات التحرر الوطني الفلسطيني، وأحد أرسخ دعائم مقومات القضية الفلسطينية، وتحتل مكانة عميقة ومتقدمة في وجدان الشعب الفلسطيني، لما تمثله من قيمة معنوية ونضالية وسياسية لدى كل الفلسطينيين على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم. لقد فتح الاحتلال الإسرائيلي سجونه ومعتقلاته، منذ بداية احتلاله لفلسطين، وزج في غياهبها، ما يقارب من مليون فلسطيني، من كافة فئات وشرائح الشعب الفلسطيني، ذكوراً وإناثاً، أطفالاً ورجالاً، صغاراً وشيوخاً.
موقف القانون الدولي من الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين:
يُصنف احتلال فلسطين من منظور القانون الدولي باعتباره نزاعاً مسلحاً دولياً بحكم وجود الاحتلال، لذا تعد الأراضي الفلسطينية مناطق محتلة، ولم تغير اتفاقيات أوسلو والاعتراف "بدولة فلسطين" كعضو مراقب من حقيقة خضوعها للاحتلال، وبات مركزها القانوني دولة مراقب في الأمم المتحدة تحت الاحتلال. يعتبر المركز القانوني للمعتقلين والأسرى الفلسطينيين محل اجتهادات متنوعة، يمكن حصرها في ثلاث اتجاهات وهي:
الاتجاه الأول: يعتبرهم أسرى حرب يخضعون لاتفاقية جنيف الثالثة الخاصة بأسرى الحرب.
الاتجاه الثاني: يتعامل معهم باعتبارهم معتقلين يتمتعون بحماية اتفاقية جنيف الرابعة الخاصة بحماية المدنيين.
الاتجاه الثالث: يرى أنهم مختطفين بطريقة غير شرعية، كون الاحتلال غير شرعي.
ولم يحسم الموقف الرسمي والأهلي الفلسطيني رأيه النهائي حول المركز القانوني للأسرى والمعتقلين، رغم أن اتفاقيتي جنيف الثالثة والرابعة أكدتا أن أفراد المقاومة المسلحة المشاركين في الأعمال القتالية الذين يقعون في قبضة قوات الاحتلال هم "أسرى حرب"، يستمدون حمايتهم من اتفاقية جنيف الثالثة والبروتوكول الإضافي الأول، أما الذين لا يشاركون في الأعمال المسلحة والقتالية، فيخضعون لحماية اتفاقية جنيف الرابعة. كما يجب التمسك بانطباق أحكام القانون الدولي لحقوق الإنسان في حالات النزاعات المسلحة والاحتلال، فكيان الاحتلال يعد من الأطراف المتعاقدة على العديد من الاتفاقيات التي يتعلق جزء كبير منها بمناهضة التعذيب، والمحاكمة العادلة، وحماية الأطفال، وغيرها من الضمانات المنصوص عليها في الاتفاقيات التي وقع عليها كيان الاحتلال، مثل العهد الخاص بالحقوق السياسية والمدنية، واتفاقية مناهضة التعذيب، واتفاقية حقوق الطفل.
الأَسْر يحكي تاريخ شعب:
مر على معتقلات العدو خلال عقود من الاحتلال مئات الآلاف من الشبان والرجال الفلسطينيين، ولا شك في أن الانتفاضة الأولى التي اندلعت نهاية عام 1987 قد شكلت علامة بارزة في سياسة الاعتقال، فقد مر على المعتقلات الصهيونية خلالها حوالي 200 ألف معتقل على تفاوت مدد اعتقالهم، وكان الاعتقال الإداري (دون محاكمة) سمة مميزة لتلك الاعتقالات.
ثم جاءت انتفاضة الأقصى لتكون علامة فارقة في سجل النضال الفلسطيني، وفيها ارتفع كثيراً عدد الأسرى الذين لم يتجاوز عددهم قبل بدئها 1500 معتقل، لكن العمليات المستمرة والاجتياح الإسرائيلية لمدن الضفة الغربية وبعض مناطق قطاع غزة قد رفع العدد إلى مستوى عالٍ جداً لا سيما بعد عمليتي "السورالواقي" و"الطريق الحازم"، ولا شك فإن العدوان المستمر على قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر شكل علامة فارقة في تاريخ الحركة الأسيرة الفلسطينية من ناحية الأعداد والقمع.
وتشير أحدث الإحصائيات حول الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال إلى أن مجمل عدد الأسرى الحاليين بلغ (9900-10400) أسير وفقاً لبيانات نادي الأسير الفلسطيني وهيئة شؤون الأسرى حتى ابريل 2025، منهم 84 امرأة (4 منهم من قطاع غزة)، وما لا يقل عن 400 طفل معتقل من الضفة مع وجود عشرات آخرين من قطاع غزة لم تُكشف أسماؤهم، حيث تشير بعض التقارير إلى أن العدد الإجمالي للأسرى الأطفال بلغ 1200 طفل، وبلغ عدد المعتقلين الإداريين 3400 فلسطيني حتى بداية مايو 2025.
لقد شكّلت عمليات الاعتقال للفلسطينيين ممارسة يومية ودائمة، وأداة "إسرائيلية" للانتقام وبث الرعب
والخوف في نفوس الفلسطينيين والتأثير على توجهاتهم بصورة سلبية؛ لوأد ثورته وإخماد مقاومته، والأخطر من ذلك، وجود هذا التلازم المقيت والقاسي، بين الاعتقالات والتعذيب، بحيث يمكن القول إن جميع من مروا بتجربة الاعتقال، من الفلسطينيين، قد تعرضوا -على الأقل- إلى واحد من أحد أشكال التعذيب النفسي أو الجسدي، مما جعل من السجن في كيان الاحتلال نموذجاً تتجلى فيه الحالة الأسوأ في الاحتلال، على مدار التاريخ، لأن أهدافه وآثاره لا حدود مكتوبة لها، فهي تمس الجسد والروح، كما تمس الفرد والجماعة، وتعيق من تطور الإنسان والمجتمع.
الانتهاكات التي يتعرض لها الأسرى:
هناك أشكال عديدة من الانتهاكات التي يتعرض لها الأسرى في مختلف السجون "الإسرائيلية" وزنازين الاستخبارات العسكرية وإن تفاوتت حدتها بين سجن وآخر، سواء لجهة سياسة إدارة السجن أو -وهذا هو الأهم- لجهة السجن نفسه والإمكانات التي يوفرها كمبنى ومرافق. وفي الإجمال فإن أبرز الانتهاكات هي ما يلي:
التعذيب:
يعد التعذيب واحداً من أبرز انتهاكات حقوق الإنسان التي يتعرض لها المعتقلون لا سيما في الأسابيع الأولى للتحقيق معهم بعد الاعتقال والتي عادة ما تتم في زنازين دوائر الاستخبارات العسكرية. أما أساليب التعذيب التي اشتهرت بها زنازين الاحتلال ولا تزال مستمرة إلى الآن، بل ازدادت شراسة لا سيما مع نشطاء العمل العسكري والأجنحة المسلحة للفصائل، فهي على النحو التالي:
تغطية الوجه والرأس: حيث يتعرض الأسير لتغطية وجهه بكيس قذر مما يؤدي إلى تشويش الذهن وإعاقة التنفس.
الشبح: أي وقوف أو جلوس الأسير في أوضاع مؤلمة لفترة طويلة وغالباً ما يتم إجلاس الأسير على كرسي صغير لا تتجاوز قاعدته 25 سم × 25 سم وارتفاعه حوالي 30 سم وتقييد يديه إلى الخلف.
الحرمان من النوم: حيث يحرم الأسير من النوم لفترات طويلة.
الحبس في غرفة ضيقة: حيث يحبس الأسير في زنزانة ضيقة جداً يصعب فيها الجلوس أو الوقوف بشكل مريح.
الحرمان من الطعام: حيث يحرم الأسير من بعض الوجبات الغذائية إلا بالقدر الذي يبقيه حياً ولا يتم إعطاء الأسير الوقت الكافي لتناول الطعام.
الضرب المبرح: حيث يتعرض الأسير للصفع والركل والخنق والضرب على الأماكن الحساسة والحرق بأعقاب السجائر والتعرض للصدمات الكهربائية.
التعرض للموسيقى الصاخبة: حيث يتعرض الأسير للموسيقى الصاخبة التي تؤثر في الحواس.
التهديد بإحداث إصابات وعاهات: حيث يتم تهديد الأسير بأنه سوف يصاب بالعجز الجسدي والنفسي قبل مغادرة التحقيق.
الحط من كرامة الأسير: حيث يرغم الأسير على القيام بأمور من شأنها الحط من كرامته.
تهديد الأسير بالاغتصاب والاعتداء الجنسي عليه أو على زوجته وذويه.
اعتقال الأقارب من أجل الضغط على الأسير.
حبس الأسير مع مجموعة من العملاء الذين يعملون لحساب المخابرات الإسرائيلية.
أُسلوب الهز: حيث يقوم المحقق بالإمساك بالأسير وهزه بشكل منظم وبقوة وسرعة كبيرة من خلال مسك ملابسه بحيث يهتز العنق والصدر والكتفين الأمر الذي يؤدي إلى إصابة الأسير بحالة إغماء ناتجة عن ارتجاج في الدماغ.
عرض الأسير على ما يسمى بجهاز فحص الكذب.
تعريضه لموجات باردة شتاء وموجات حارة صيفاً أو كلاهما معاً.
حرمان الأسير من قضاء الحاجة.
إجبار الأسير على القيام بحركات جسدية صعبة ومؤلمة.
منع زيارة المحامين: تعد هذه القضية انتهاكاً لحقوق الأسرى الفلسطينيين، وإن لم تكن واحدة من الانتهاكات المهمة في عرفهم رغم أهميتها بالنسبة للكثير من المعتقلين الإداريين الذين لا يعرفون تهمهم ولا متى سيخرجون، على اعتبار أن الاعتقال لمدة ثلاثة أشهر أو ستة أشهر قد يمدد لشهور أخرى من دون توقف.
الاعتقال الإداري:
يعد هذا النوع واحداً من أبشع الانتهاكات لحقوق الإنسان، وقد عرف على نحو لافت للنظر خلال الانتفاضة الأولى نهاية العام 1987، وازداد أيضاً إبان انتفاضة الأقصى، ويقوم هذا النوع من الاعتقال على احتجاز المتهمين ممن لا أدلة تدينهم لثلاثة أو ستة شهور مع إمكانية تجديدها لمرات عديدة من دون إبداء الأسباب.
انعدام الرعاية الصحية:
يعيش المعتقلون في زنازين الاحتلال في أسوأ وضع من زاوية الرعاية الصحية، حيث تغيب المقومات الدنيا من هذه الرعاية، بل إن حبوب المسكن العادية هي الدواء المتاح لأسوأ أنواع الأمراض. وإذا تم نقل بعضهم إلى المستشفيات فإن الأمر يغدو أكثر سوءاً؛ ولعل قصة المستشفى التابع لسجن الرملة يشكل المثال الأوضح على ذلك، فالمستشفى يعد أسوأ من المعتقلات، وهو يستخدم الأطباء والممرضين في الضغط على المعتقلين وانتزاع اعترافاتهم ومساومتهم وإسقاط بعضهم في العمالة أحياناً، وذلك عن طريق مساومتهم على أوضاعهم الصحية الحرجة.
العزل:
يشكل العزل واحداً من أسوأ الانتهاكات بحق الأسرى، فالسجن الجماعي أرحم ألف مرة من وضع الأسير في غرفة باردة رطبة معزولة عن الكون بأسره يقضي كل حاجاته داخلها مما يؤدي إلى إصابته بأمراض وعاهات بعضها مزمن، فضلاً عن الوضع النفسي الذي يعيشه في مثل هذه الحال، وقد مضى على بعض المعتقلين الذين يوصفون بأنهم خطرين سنوات على هذا الحال.
الحرمان من زيارة الأهل:
هذه واحدة من الانتهاكات الأخرى لحقوق الأسرى، وتقوم على الحيلولة دون زيارة الأهل، وإذا حصل أن فازوا بإذن للزيارة عن طريق أحد المحامين فإن الإهانة التي يتعرضون لها تدفع الأسير إلى مطالبتهم بعدم زيارته كي يجنبوا أنفسهم هذا العناء، مع أن الزيارة تبقى ضرورية من زاوية معرفة الأسير بأحوال أهله وذويه وأبنائه –إن كان متزوجاً-.
الأسرى نماذج نضالية فريدة:
لقد فـرض السجن على الأسرى الفلسطينيين حياة لا تطاق؛ فعذاباته لا تنتهي بمجرد الخروج منه، بل تتواصل آثارها إلى ما بعد التحرر، لأنها تورث أسقاماً مزمنة في الجسم وفي النفس معا. كل هذا رغم حقيقة أن تجارب صمودهم وخطواتهم النضالية وإضراباتهم عن الطعام -الجماعية والفردية- لا تزال تشكل نماذج فريدة ومميزة، في الوعي الجمعي الفلسطيني، وأن السجان بسلوكه الشاذ لم يفلح في انتزاع فلسطين من قلوبهم، كما لم ينجح في تغييب القدس والأقصى عن عقولهم واهتماماتهم؛ فكانت السجون مكاناً للإعداد والتثقيف، وشكَّلت رافداً مهما للثورة، ووقوداً للمقاومة، وكان للمحررين دورٌ أساسيٌ في بناء مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني.
أسرانا ليسوا مجرد أبناء الوطن المغيبين، بفعل إجرام الاحتلال المتكرر، بل هم أبطال ثاروا فناضلوا وضحوا، ثم أفنوا زهرات شبابهم خلف قضبان السجون، ومنهم من قضى نحبه، من أجل فلسطين ومقدساتها. وهم أهازيج الحرية، التي ما زالت تنشدها ماجداتنا، لينشأ عليها فتياننا حاملين معهم هدف التحرير الذي ما غاب عن وعيهم وحتى أحلامهم.
لا شك في أن الأسرى يتطلعون إلى دور شعبهم وأمتهم في نصرتهم بمختلف الفعاليات الممكنة والمتاحة، سواء المعنوية كانت بالمسيرات والأيام التضامنية أم عن طريق تنظيم لجان النصرة والدفاع، إلى غير ذلك من الفعاليات، وصولاً إلى الوسائل نضالية العسكرية مثل الخطف ومبادلة الأسرى. لذا فإن كان تحرير الأسرى ضرورة حيوية لتعزيز ثقافة الصمود والمقاومة، فإن التثقيف بخطورة الاعتقالات يُعتبر واجباً ملحاً وضرورياً لحماية المقاومة، وإن العمل من أجل مواجهة الاعتقالات ووقفها، بات ضرورة موضوعية لحماية المجتمع من خرابها.
وفي العموم فإن الأسرى لا يفقدون الأمل بتحقيق انتصار على الاحتلال يحملهم إلى الحرية، مع أنهم باعوا حريتهم ليحيا شعبهم، وهم يرفضون أن يتحولوا إلى عنصر ضغط عليه للتنازل عن حقوقه كما يصرحون دائماً.














