منذ قرابة عقدين وأنا أبحث في ظواهر الاستعمار ودوافع النفوذ والهيمنة، خاصة في منطقتنا المسماة "الشرق الأوسط" التي تشكّلت حدودها وفق مصالح القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية. لأجد لاحقاً تفسيراً أكثر قرباً من الواقع يتعلق بهندسة خرائط النفوذ الأمريكي لا سيما في منطقة الشرق الأوسط وفلسطين في القلب منها،
ولعل المقال يعالج تلك العلاقة بين الطاقة (الغاز) والسياسة الدولية والإقليمية في ضوء الحرب على غزة وهندسة خرائط النفوذ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ويُظهر بدوره كيف تتقاطع مصالح القوى الكبرى والإقليمية مع القضية الفلسطينية في ضوء ذلك.
لعل من الجدير ذكره أن منطقة الشرق الأوسط بطبيعتها عرضة للتغيرات المتلاحقة، فيما تواجه واشنطن تحديات جيوسياسية واقتصادية متصاعدة تسهم في تآكل نفوذها، من أبرزها الحرب الروسية الأوكرانية والأزمة الطاقوية العالمية، إضافة إلى التفاف الصين على العقوبات الأمريكية باستيراد الطاقة من إيران عبر دول وسيطة. هذه التحولات وغيرها دفعت الولايات المتحدة وحلفاءها لتشديد العقوبات ومحاولة عرقلة المسارات الاقتصادية لروسيا والصين، بالتوازي مع البحث عن بدائل للطاقة بعيداً عن موسكو وطهران.
في هذا السياق، تجلّت أهمية شرق المتوسط بما يملكه من احتياطات ضخمة من الغاز كبديل، ومنها ما يقع في المياه الإقليمية الفلسطينية قبالة شاطئ غزة. *حيث تعتبر واشنطن هذه الثروة جزءاً من مجال نفوذها المباشر*، بينما جرى تعزيز التعاون الأمني بين إسرائيل ومصر وقبرص واليونان ودول أخرى لحماية مصالح الطاقة في المتوسط وهو ما أثار بدوره حفيظة تركيا كونها خارج دائرة التعاون تلك في حينه، وقد تُرجم ذلك بترسيم الحدود البحرية بين تلك الأطراف، ومنحت إسرائيل الحصة الأكبر من حقل كاريش على الحدود مع لبنان، إضافة إلى السماح لشركة "شل" الفرنسية بالعمل على تطوير حقل "غزة مارين" بتوجيه مباشر من رئيس وزراء "إسرائيل" نتنياهو في يونيو 2023 ، يأتي كل ما سبق في خطوة لتحويل إسرائيل إلى مركز طاقة إقليمي يمدّ أوروبا بالغاز عبر مصر.
تزامن ذلك مع إعادة ترتيب أنساق القوى في الإقليم، عبر ترقية "إسرائيل" رسمياً الدولة رقم 21 ضمن "منطقة مسؤولية القيادة المركزية الأمريكية" (CENTCOM) وذلك في يناير 2021. وفي نوفمبر 2022: قام الجنرال مايكل "إريك" كوريلا، قائد CENTCOM حينئذ، بأربع زيارات للقوات الإسرائيلية، كان آخرها في 15 نوفمبر 2022، وذلك خلال توليه مهامه الرسمية.
وبالتأسيس على ما سبق قد تم إنشاء تحالفات أمنية ودفاعية بقيادة أمريكية وبمشاركة دول عربية في إطار الاتفاقات الإبراهيمية. وهو ما رأى الفلسطينيين فيه تجاوزاً صارخاً لحقوقهم، ما ساهم في اندلاع مواجهة 7 أكتوبر 2023 التي قلبت الحسابات الأمريكية. حينها سارع البيت الأبيض باعلان *"لاءاته الثلاث" في اليوم التالي للحرب: (لا لحكم حماس، لا للاحتلال، لا للفوضى)* في محاولة لاحتواء الموقف وضمان مصالحه الاستراتيجية في غزة باعتبارها نقطة ارتكاز لمشاريعه ضد روسيا والصين وإيران، وأحد البدائل الطاقوية المحتملة عن الغاز الروسي والإيراني.
بينما وفي ظل الحرب، أُرسلت سبع شركات للكشف عن الغاز في المياه الفلسطينية. وفي المقابل، ومن المثير حقاً هو: ابرام مصر صفقة غاز ضخمة مع إسرائيل برعاية أمريكية لتوريد قرابة 110 مليارات متر مكعب من الغاز الفلسطيني إلى أوروبا عبرها. وتمتد الاتفاقية حتى عام 2060، وهو ما يثير غضب الفلسطينيين ويضع الأطراف ومن بينها الأوروبيين أمام شبهة "سرقة القرن"، كون الغاز ملكية لشعب تحت الاحتلال وتسريبه دون موافقة صريحة من الشعب الفلسطيني يعد تجاوزاً وانتهاكاً للقانون الدولي. هذا برأي بعض المحللين دفع بعض الدول الأوروبية مثل: (فرنسا وبريطانيا، وآخرين..) للتلويح بالاعتراف بالدولة الفلسطينية لجعلها ورقة مساومة مشروطة، أكثر منه التزاماً حقيقياً بالحقوق الفلسطينية، والتغطية على جريمة تسريب الغاز.
في المقابل، يبرز طرح أمريكي بديل عبّر عنه جاريد كوشنر باعتبار التنمية الاقتصادية بديلاً عن الحلول السياسية في فلسطين. إذ يرى أن تحويل غزة إلى "ريڤيرا" تحت إدارة دولية بعد تهجير واسع وإعادة إعمار وفق مشروع اقتصادي أمريكي قد يشكّل على حد وصفه "فرصة القرن". لكن نجاح ذلك يبقى رهناً بما ستفرزه تطورات الميدان في قادم الأيام.














