تتكرر بين الفينة والأخرى دعوات، سواء عربية أو دولية، تطالب حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بالتخلي عن سلاحها، تارةً باسم الوحدة الوطنية، وتارةً باسم “بسط السيادة” أو “احتكار العنف المشروع” من قبل الدولة الفلسطينية المفترضة. ولكن هذا الخطاب غالبًا ما يتجاهل السياق التاريخي والسياسي والوجداني الذي نشأت فيه المقاومة، ويقفز فوق سؤال أكثر جوهرية: هل تحققت شروط التحرر حقًا كي يُطرح سؤال تسليم السلاح؟
إن الفرضية التي ينطلق منها هذا المقال هي أن تسليم حماس لسلاحها لا يكون موضوعًا منطقيًا للنقاشإلا إذا تحررت فلسطين فعلًا، وأُقيمت دولة فلسطينية ذات سيادة حقيقية، لا مجرّد كيان وظيفي تحتسقف الاحتلال أو الوصاية الدولية والعربية. فالمقاومة ليست انحرافًا عن المسار السياسي، بل هيالتعبير الأصدق عن فشل هذا المسار حين يُبنى على أوهام التسوية، لا على وقائع التحرر.
فتجربة التسوية وسقوط رهان الدولة الذي قادته حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية مسارًا طويلًامن التسوية منذ أوسلو عام 1993، تحت وعود دولية وعربية بأن هذا المسار سينتهي إلى دولةفلسطينية مستقلة. وبعد أكثر من ثلاثين عامًا، لم تُرفع القيود عن القدس، ولا تفككت المستوطنات، بلازداد الاستيطان أضعافًا، وتحوّلت السلطة إلى مقاول أمني في خدمة أمن الاحتلال.
تجربة السلطة الفلسطينية منذ نشأتها، تشكّل دليلاً حاسمًا على أن “وعود الدولة” ليست كافية بحدذاتها لتفكيك بنى المقاومة، بل قد تُستخدم هذه الوعود أداةً لتدجين الوعي، وتصفية القوى الثورية.
وبالتالي، فإن من يطالب حماس بتسليم سلاحها اليوم، دون أي تغيير جذري في موازين القوى، إنمايطلب منها أن تنتحر سياسيًا وأخلاقيًا ووظيفيًا، بعد أن أثبتت التجربة أن التسوية لا تنتج سيادة، بل تنتجسلطة منزوعة الدسم ومخترقة وظيفيًا.
فالمقاومة ليست وظيفة طارئة في الحالة الفلسطينية، خصوصًا في نموذج حماس، ليست بندقية بلاعقل، ولا مجرد ردّ فعل لحظي. بل هي بنية شاملة: فكرًا، وثقافة، وتنظيمًا، واقتصادًا، ومجتمعًا بديلًا. وعندما تتحدث حماس عن “المقاومة”، فهي تشير إلى مشروع تحرر متكامل، وليس إلى سلاح تقنييمكن فصله عن باقي مكونات الوعي الجمعي.
ولذلك، فإن المطالبة بتسليم سلاح المقاومة هي في جوهرها مطالبة بتفكيك أحد أعمق أشكال الوعيالتحرري الذي تشكّل في ظل الإبادة والحصار والحرب النفسية.
أي أنها ليست مجرد عملية أمنية، بل محاولة نزع “الحق في القوة” من يد شعب تعلّم أن الحق بلا قوةيُدهس، وأن التحرير لا يأتي بالاستجداء.
لذلك يطرح سؤال منطقي وهو متى تتخلى المقاومة عن سلاحها؟
لا أحد من العقلاء، داخل حماس أو خارجها، ينظر إلى السلاح كغاية نهائية. بل الأصل أن السلاح وسيلةلخدمة مشروع التحرر، وحين يتحقق هذا المشروع، تصبح المقاومة في حاجة إلى مراجعة أدواتها، وربماتحويل طاقتها إلى مشروع بناء الدولة، ولكن بشرط أن تكون هذه الدولة دولةً حقيقية، لا كيانا وظيفيًاعلى حساب دماء الشهداء.
إن حركة حماس، في وثيقتها السياسية عام 2017، قالت بوضوح إنها لا تعارض قيام دولة فلسطينية علىحدود 1967 كحل مرحلي، لكنها لا تعترف بشرعية الكيان الصهيوني على أي جزء من أرض فلسطين. وهذا الموقف يحمل ضمنيًا معنى الاستعداد للانتقال السياسي، ولكن ليس ضمن شروط استسلام، بلضمن تحقيق حد أدنى من الإنجاز السيادي الوطني الكامل.
وبالتالي فإن أي حديث عن نزع سلاح المقاومة لا يمكن أن يُناقش إلا بعد تحقق الشروط الآتية:
1. تحرير فعلي للأرض الفلسطينية، لا مجرّد إدارة ذاتية تحت الاحتلال.
2. تفكيك المستوطنات وإزالة الجدار العنصري، وضمان السيادة الكاملة على الحدود والموارد.
3. تفكيك بنى التنسيق الأمني، وتشكيل جيش وطني بمرجعية مقاومة لا أمنية.
4. محاسبة المحتل على جرائمه، وضمان عدم تكرار الإبادة.
5. تحصين الهوية الفلسطينية من مشاريع التطبيع والاختراق الثقافي.
وما عزز هذا التوجه في ميزان التاريخ والمقاومة فإذا قرأنا تجارب حركات التحرر عالميًا، سنجد أن أغلبهااحتفظت بأذرعها المقاومة حتى بعد التحرير، بل ساهمت هذه الأذرع في بناء الدولة الجديدة، كمثال:
• حزب الله في لبنان لم يسلّم سلاحه بعد الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب عام 2000، بلاحتفظ به توازنًا للردع، ولأنه يعلم أن الانسحاب لا يعني نهاية المعركة.
• حركات التحرر في جنوب إفريقيا، احتفظت ببعض البنى المسلحة حتى بعد انتقال السلطة مننظام الفصل العنصري.
• الفيتكونغ في فيتنام، شكّلت العمود الفقري للدولة الاشتراكية بعد دحر الاحتلال الأمريكي.
فلماذا يُراد للفلسطيني أن يتنازل عن سلاحه قبل أن يستعيد أرضه؟ بل لماذا يُطالَب المقاوم بتسليمأدواته في وقت لا يزال القاتل يسرح ويمرح، والمحتل يزداد تغوّلاً؟
إن في ذلك استغباءً للوعي الفلسطيني، ومحاولة تفكيك آخر خطوط دفاعه.
والسؤال الاخر حول وهم الدولة قبل التحرير فهناك من يظن أن وجود كيان فلسطيني اسمه “الدولة” كافٍ لإطفاء جذوة المقاومة. ولكن الواقع أن الدول لا تُقيم شرعيتها من مجرد اسمها، بل من مدىامتلاكها لقرارها السيادي.
فإن كانت الدولة “الموعودة” ستقوم تحت إشراف دولي، وبقوات أمنية دربتها أمريكا، وقيادة سياسية لاتمثل غالبية الشعب، وبلا القدس ولا حق عودة، فهذه ليست دولة، بل قناع سياسي للاحتلال، وسجن أكبريُطلَق عليه زورًا “الحرية”.
والمفارقة أن الذين يطالبون حماس بتسليم سلاحها في ظل هذه الظروف، هم أنفسهم الذين عجزوا عنحماية أرواح الفلسطينيين في غزة والضفة والقدس، ورضخوا للواقع الاستعماري.
لذلك وجدت حماس نفسها بين التكتيك والتحول التاريخي فلا يمكن قراءة موقف حماس من السلاحخارج سياق تحولها من مجرد حركة مقاومة إلى مشروع وطني كامل له جناح عسكري وجناح سياسي، ولهخطاب دولي ومحلي، وله قدرة على إدارة المجتمع والمواجهة مع الاحتلال.
وما بعد “طوفان الأقصى”، بات من الواضح أن سلاح حماس لم يعد سلاحًا هامشيًا، بل أداة ميدانيةلتغيير معادلات الشرق الأوسط. فكيف يُطلب من هذا الفاعل أن يتقاعد قبل أن تكتمل مهمته التاريخية؟
صحيح أن حماس قد تدخل يومًا في عملية انتقال نحو دولة، ولكن هذا الانتقال لن يكون على قاعدةتصفية بنيتها المقاومة، بل على قاعدة إدماجها ضمن البنية السيادية للدولة الجديدة، إذا كانت تلكالدولة تعبّر عن إرادة الشعب.
*ماذا يعني أن يُطلب من حماس تسليم سلاحها وهي لا تملك إلا القليل؟* قد يقول قائل: وما قيمةالنقاش حول “سلاح حماس” وهي لا تمتلك سوى بضع راجمات، وبعض الأسلحة الخفيفة، مقارنةًبترسانة العدو النووية والاستخبارية والجوية؟
والجواب أن المسألة لا تتعلق بكمية السلاح، بل برمزية امتلاكه، وبالقدرة الأخلاقية والنفسية علىتوجيهه في وجه الظلم.
فحين تطالب أطراف عربية ودولية حركة حماس بنزع سلاحها، فهي لا تطلب نزع الخطر العسكري كماتزعم، بل تطلب نزع آخر رموز السيادة الذاتية الفلسطينية. لأن هذا السلاح، رغم تواضعه، استطاع:
• أن يهزم الجيش الإسرائيلي في أكثر من مواجهة ميدانية.
• أن يخلق معادلة ردع نفسية تجعل من كل اجتياح كلفة سياسية وعسكرية باهظة.
• أن يُحيي الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي بأن النصر ممكن.
إذًا، ماذا يعني هذا الطلب؟
1. محاولة لنزع الشرعية الرمزية عن مشروع المقاومة.
ليس المطلوب فقط تفكيك كتائب القسام أو منع تصنيع الصواريخ، بل المطلوب محاصرة المعنىالثوري للسلاح: أن يبقى الفلسطيني مكسورًا، منزوع العنف، مطمئنًا للعجز.
2. إخضاع النفس المقاومة.
فالمستهدف ليس البندقية، بل من يحملها، والوعي الذي جعله يتمسك بها رغم المجازر، والحصار،والتجويع، والخيانة الإقليمية.
3. تجريد الشعب من آخر أدوات الدفاع الذاتي.
في ظل سلطة فلسطينية عاجزة، وجيش عربي غائب، فإن نزع سلاح المقاومة يعني ترك غزة والمدنالفلسطينية مكشوفة تمامًا، أمام آلة القتل الصهيونية.
4. ضمان تفوق العدو في المستقبل.
فحتى لو حصل الفلسطيني على دولة وهمية، فإن نزع سلاح المقاومة قبل تفكيك الاحتلال، يُحوّل تلكالدولة إلى ما يشبه “سلطة لشرطة محلية”، لا دولة ذات سيادة.
*بين نزع السلاح ونزع الذاكرة* علينا أن نقرأ هذا الطلب ضمن مشروع أوسع: إعادة هندسة الوعيالفلسطيني.
فكما يُراد لنا أن ننسى النكبة، وأن نطبّع مع القاتل، يُراد لنا أن ننسى أن التحرير لا يتم إلا بالقوة.
ولهذا فإن تسليم السلاح لا يعني فقط تسليم أدوات المواجهة، بل تسليم ذاكرتنا التاريخية، واستبدالهابوعي ناعم خانع، يخاف من النصر، ويُؤمن بالهزيمة بوصفها قدَرًا.
في ميزان العقل، لا أحد يقدّس السلاح لذاته، لكن في ميزان الذاكرة الفلسطينية، لا يُسلم السلاح إلا بعدالتحرير الحقيقي، لا التحرير الموهوم.
فالحديث عن “نزع سلاح حماس” هو محاولة ناعمة لإغلاق ملف المقاومة، وتحويل القضية من مشروعتحرر إلى مشروع إدارة سكانية، ومن شعب مقاوم إلى تابعٍ بلا مخالب.
حين تتحرر فلسطين كلها، وتُفكك بنى الاحتلال فعليًا، ويعود اللاجئون، وتقوم دولة واحدة بلا تنسيق أمنيولا تبعية، عندها لا يُسلم السلاح، بل يُدمج في جيش وطني شريف، وتحرسه أيدٍ قاتلت لا أيدٍ نسّقت.
أن يخلق معادلة ردع نفسية تجعل من كل اجتياح كلفة سياسية وعسكرية باهظة
أن يُحيي الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي بأن النصر ممكن.
إذًا، ماذا يعني هذا الطلب؟
1. محاولة لنزع الشرعية الرمزية عن مشروع المقاومة.
ليس المطلوب فقط تفكيك كتائب القسام أو منع تصنيع الصواريخ، بل المطلوب محاصرة المعنىالثوري للسلاح: أن يبقى الفلسطيني مكسورًا، منزوع العنف، مطمئنًا للعجز.
2. إخضاع النفس المقاومة.
فالمستهدف ليس البندقية، بل من يحملها، والوعي الذي جعله يتمسك بها رغم المجازر، والحصار،والتجويع، والخيانة الإقليمية.
3. تجريد الشعب من آخر أدوات الدفاع الذاتي.
في ظل سلطة فلسطينية عاجزة، وجيش عربي غائب، فإن نزع سلاح المقاومة يعني ترك غزة والمدنالفلسطينية مكشوفة تمامًا، أمام آلة القتل الصهيونية.
4. ضمان تفوق العدو في المستقبل.
فحتى لو حصل الفلسطيني على دولة وهمية، فإن نزع سلاح المقاومة قبل تفكيك الاحتلال، يُحوّل تلكالدولة إلى ما يشبه “سلطة لشرطة محلية”، لا دولة ذات سيادة.
وأخيراً بين نزع السلاح ونزع الذاكرة علينا أن نقرأ هذا الطلب ضمن مشروع أوسع: إعادة هندسة الوعيالفلسطيني.
فكما يُراد لنا أن ننسى النكبة، وأن نطبّع مع القاتل، يُراد لنا أن ننسى أن التحرير لا يتم إلا بالقوة.
ولهذا فإن تسليم السلاح لا يعني فقط تسليم أدوات المواجهة، بل تسليم ذاكرتنا التاريخية، واستبدالهابوعي ناعم خانع، يخاف من النصر، ويُؤمن بالهزيمة بوصفها قدَرًا.
في ميزان العقل، لا أحد يقدّس السلاح لذاته، لكن في ميزان الذاكرة الفلسطينية، لا يُسلم السلاح إلا بعدالتحرير الحقيقي، لا التحرير الموهوم.
فالحديث عن “نزع سلاح حماس” هو محاولة ناعمة لإغلاق ملف المقاومة، وتحويل القضية من مشروعتحرر إلى مشروع إدارة سكانية، ومن شعب مقاوم إلى تابعٍ بلا مخالب.
حين تتحرر فلسطين كلها، وتُفكك بنى الاحتلال فعليًا، ويعود اللاجئون، وتقوم دولة واحدة بلا تنسيق أمنيولا تبعية، عندها لا يُسلم السلاح، بل يُدمج في جيش وطني شريف، وتحرسه أيدٍ قاتلت لا أيدٍ نسّقت.
أما قبل ذلك، فإن كل دعوة لتسليم السلاح، هي دعوة للاستسلام المقنّع باسم الدولة.














