في الثامن من مايو من كل عام، يقف العالم لإحياء اليوم العالمي "للصليب الأحمر"، إحياءً لذكرى ميلاد "هنري دونان"، المؤسس السويسري لمنظمة الصليب الأحمر، وأول من نال جائزة نوبل للسلام، هذه المنظمة الإنسانية التي نشأت لتكون ملاذً للضحايا في أوقات الحروب والكوارث، ولتجسد مبادئ الحياد والرحمة واحترام الكرامة البشرية، لكن في ظل ما يشهده العالم اليوم من صراعات دموية، وخصوصاً في قطاع غزة جراء العدوان "الإسرائيلي" تتوارد الأسئلة: فهل لا تزال المبادئ التي تأسست عليها هذه المنظمة حاضرة في حماية المظلومين؟ وهل يستوي الضحايا في الاهتمام والمساندة؟ وماذا عن الشعب الفلسطيني الذي يُذبح أمام مرأى العالم؟ هل نُسِيَ من قائمة الإنسانية، أم أُسقِط عمداً من حسابات الحياد والحقوق؟!
مهام المنظمة: مبادئ عظيمة ومسؤوليات ثقيلة
منذ نشأتها عام 1863، تأسست على سبعة مبادئ جوهرية، هي: الإنسانية، عدم التحيّز، الحياد، الاستقلال، الخدمة التطوعية، الوحدة، والعالمية. وتهدف المنظمة إلى تقديم الحماية والمساعدة للضحايا أثناء الحروب والكوارث الطبيعية والنزاعات، كما تُعنى بزيارة المعتقلين، وحماية المدنيين، وضمان احترام القانون الدولي الإنساني، لا سيما اتفاقيات جنيف التي تُلزم الأطراف المتنازعة بحماية الأشخاص غير المشاركين في القتال.
تاريخياً، لعبت المنظمة دوراً كبيراً في الحروب والنزاعات، حيث وفّرت الحماية للمستشفيات والطواقم الطبية، وساعدت في إعادة لم شمل العائلات، وكانت صوتاً إنسانياً يُذكّر العالم بحقوق من لا صوت لهم، وبينما لا يُنكر أحد الدور الإيجابي الكبير الذي لعبته المنظمة في أماكن كثيرة، إلا أن تطبيق هذه المبادئ في سياقات معقدة مثل القضية الفلسطينية، يبدو اليوم موضع تساؤل وجدل كبيرين.
فلسطين: الجرح النازف في جسد الإنسانية
منذ ما يقرب من 77 عاماً، يعاني الفلسطينيين من الاحتلال والتهجير والحصار، لكن ما شهدوه مؤخراً، وعلى وجه الخصوص في قطاع غزة، يُعد أبشع الفصول وأكثرها دموية في تاريخ الصراع، فالقصف لا يميز بين رضيع وشيخ، ولا بين مدرسة ومستشفى، والبيوت تُهدم على رؤوس ساكنيها، والطواقم الطبية تُستهدف بشكل مباشر، والمستشفيات تُحاصر أو تُقصف، ووفق تقارير منظمات حقوقية، تجاوز عدد الشهداء عشرات الآلاف، بينهم آلاف الأطفال والنساء، إضافة لآلاف المفقودين تحت الركام، في ظل شحّ حاد في الغذاء، الدواء، والوقود.
وفي الضفة الغربية، الاعتقالات اليومية والاقتحامات تُشكّل نمطاً من أنماط القمع المتصاعد، بالتالي فإن حجم المعاناة والدمار الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، يُعد كارثة إنسانية مكتملة الأركان، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ومع كل ذلك نرى أن ردُّ الفعل الدولي، بما فيه أداء الصليب الأحمر، لا يبدو متناسباً مع حجم الكارثة.
الصليب الأحمر في فلسطين: بين الجهود والتقصير
تمتلك اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC) حضوراً في الأراضي الفلسطينية، ولها تاريخ في زيارة المعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال "الإسرائيلي"، وتقديم بعض المساعدات الطبية والغذائية، والتعاون مع الهلال الأحمر الفلسطيني.
لكن حين يتعلق الأمر بالجرائم الممنهجة مثل تدمير المرافق الصحية، وقطع الكهرباء عن المستشفيات، ومنع دخول المساعدات، واحتجاز الجثامين، واستهداف المدنيين… فإن الصوت يبقى خافتاً رغم فداحة الجرائم!.
تواجه اللجنة الدولية للصليب الأحمر تحديات حقيقية، من بينها القيود التي تفرضها سلطات الاحتلال على الوصول للمناطق المنكوبة، واستهداف الطواقم الإغاثية، فضلاً عن غياب الدعم الدولي الكافي لتمكينها من أداء مهامها بفاعلية، كما توَجَّه إليها انتقادات عديدة بسبب تمسكها المفرط بـالحياد، الذي يتحول أحياناً إلى صمت على جرائمٍ صارخة.
وهنا يُثار السؤال الأخلاقي والمبدئي: هل الحياد في وجه الجريمة، يُعد حيادً أم تواطؤاً ضمنياً بالصمت؟
لكن مع ذلك، فإن من واجب الصليب الأحمر أن يكون شاهداً لا صامتاً، وأن لا يكتفي بإدارة الأزمات بصمت مهني، بل أن يتحوّل إلى جهة توثيق وفضح للجرائم، خاصة عندما لا توجد منظمات أخرى قادرة على الدخول إلى الميدان.
قصص وإحصائيات من الواقع
في يوم الأحد، 23 مارس 2025، كانت محافظة رفح -جنوب قطاع غزة- في موعد مع جريمة مروعة، حيث استهدفت قوات الاحتلال "الإسرائيلي" طواقم طبية أثناء تأديتها لواجبها الإنساني، ففي صباح ذلك اليوم، أُرسل فريق من الهلال الأحمر والدفاع المدني لإنقاذ زملاء لهم تعرضوا للاستهداف في وقت سابق، لاحقاً، فُقد الاتصال بالفريق، واعتُبروا في عداد المفقودين، بعد عدة ساعات من الانتظار وانقطاع الاتصال بهم بصورة كاملة.
بعد أيام، تمكنت فرق مشتركة من مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية والهلال الأحمر والدفاع المدني من الوصول إلى الموقع في منطقة تل السلطان برفح، حيث عُثِرَ على جثث الطواقم الطبية مكبلة الأيدي والأقدام، وعليها آثار إعدام من مسافة قريبة، وكانت مشوهة بشكل يصعب التعرف عليها، حيث صرح (جوناثان ويتال) من مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية بأن الجثث تم استخراجها بزيّهم الرسمي وقفّازاتهم، مما يؤكد أنهم كانوا يؤدون مهامهم الطبية عند استهدافهم.
تأتي هذه الجريمة ضمن سلسلة من الانتهاكات التي يتعرض لها القطاع الصحي في غزة، حيث أفادت وزارة الصحة الفلسطينية بأن الاحتلال "الإسرائيلي" استهدف الطواقم الطبية والمنشآت الصحية بشكل متعمد، مما أدى إلى استشهاد أكثر من 990 كادراً صحياً منذ بداية العدوان "الإسرائيلي" في أكتوبر 2023، وتدمير العديد من المستشفيات وخروجها عن الخدمة، كما أشارت وزيرة الصحة الفلسطينية (مي الكيلة) إلى أن الاحتلال يتعمد استهداف المستشفيات ومحيطها، وقصف مولدات الطاقة للمشافي، في خطوة تهدف إلى إلحاق أكبر أذى ممكن بالمواطنين في قطاع غزة.
وقد سجّلت منظمة (Insecurity Insight) ما مجموعه 1,813 حادثة عنف أو عرقلة للوصول* إلى الرعاية الصحية في قطاع غزة بين 7 أكتوبر 2023 و17 مارس 2025، إضافة إلى رصد تضرر المنشآت الصحية 354 مرة، وضمن هذه الحوادث شملت مستشفيات ومراكز صحية وعيادات، وأشارت المنظمة إلى اعتقال 353 من العاملين في قطاع الرعاية الصحية في قطاع غزة.
وبحسب تقارير منظمة الصحة العالمية (WHO)، حتى يونيو 2024 تضرّرت أو دمرت 113 سيارة إسعاف في قطاع غزة نتيجة قصف أو استهداف مباشر من قِبل قوات الاحتلال "الإسرائيلي".
ومن الجدير ذكره، أنه في التاسع من أكتوبر 2023 قصفت طائرة حربية "إسرائيلية" محيط مستشفى بيت حانون في محافظة شمال غزة، ما أدّى إلى أضرار مادية أجبرت المستشفى على تعليق معظم خدماته الطارئة والروتينية، وسط تفاقم أعداد الجرحى والمرضى المحتاجين للعناية الفورية.
وفي ذات اليوم، استُهدِفَت بالقصف الجوي "الإسرائيلي" نقطة تمركز لسيارات الهلال الأحمر الفلسطيني، فأسفر عن مقتل أربعة من العاملين وإصابة أربعة آخرين، أثناء محاولتهم إجلاء المصابين إلى المستشفيات.
وحذرت منظمة الصحة العالمية في الثالث عشر من أكتوبر 2023 أن المستشفيات في غزة وصلت إلى "نقطة الانهيار" بسبب نقص الوقود والماء والمستلزمات الطبية، مع استمرار القصف الذي يؤثر على التيار الكهربائي وشبكات المياه، ما دفع الكوادر الطبية للعمل تحت الضغط الشديد وباتوا يواجهون قرارات إنسانية صعبة بشأن أي الحالات تُعالج أولاً.
وفي نهاية ديسمبر 2024 أصدر مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة تقريراً وثّق 136 هجوماً على منشآت صحية في غزة بين أكتوبر 2023 ويونيو 2024، مع تشكيك في التبريرات الإسرائيلية بشأن استخدام المرافق كمواقع عسكرية، خلُص التقرير إلى أن هذه الهجمات، التي أدّت إلى قتل العشرات من الطواقم الطبية وتدمير الأنظمة الحيوية، قد ترقى إلى جرائم حرب بموجب القانون الدولي.
دعوة لتعزيز الدور الإنساني وحماية القيم
في اليوم العالمي للصليب الأحمر، لا يكفي التذكير بالمبادئ، بل يجب محاسبة الأداء، خاصة حين لا تُترجم المبادئ إلى حماية فعلية للضحايا.
في هذا اليوم، لا يكفي الاحتفاء بالشعارات الإنسانية ما لم تُترجم إلى مواقف فاعلة، وعلى الصليب الأحمر، وباقي المنظمات الدولية، أن تُراجع أدائها في المناطق التي تشهد كوارث إنسانية، وعلى رأسها فلسطين، حيث يُستهدَف الأبرياء دون محاسبة.
نطالب الصليب الأحمر بأن يرفع صوته بوضوح ضد الانتهاكات الموثقة في فلسطين، فهو القادر على التحرك في المحافل الدولية، وأن يَنشُر تقارير مفصّلة للرأي العام العالمي حول الجرائم بحق المدنيين الفلسطينيين، وأن يمارس الضغط كي يُجبر الأطراف الدولية على احترام القانون الإنساني وتقديم المساعدة دون عوائق، ولا شك وهذا الأهم بأن يُسائل الاحتلال على ممارساته بحق الطواقم الطبية، والمستشفيات، والمدنيين، والأسرى.
وحتى نكون منصفين، على الشعوب والمجتمعات حول العالم، أن تقوم بدعم جهود الصليب الأحمر وتوسيع صلاحياته، وليس فقط لومه، مع أهمية الضغط من أجل أن يكون أداؤه أكثر فاعلية وشفافية، خصوصاً في الأماكن التي تعاني من حصار إعلامي وسياسي مثل فلسطين.
وفي الختام: لا إنسانية بلا عدالة
في عالمٍ تتسارع فيه الأحداث وتتشابك فيه التحالفات، يزداد خطر ازدواجية المعايير، وتُصبح الإنسانية مجرّد شعار ما لم تُدعم بالفعل والموقف، فاليوم تمثل فلسطين اختبارً حقيقياً للمجتمع الدولي، وللمنظمات الإنسانية، وعلى رأسها الصليب الأحمر، فإذا كانت الإنسانية لا تتجزأ، فلا يمكن أن يُغض الطرف عن غزة، ولا أن تتغافل عن أسرى فلسطين، ولا أن تصمت أمام تدمير المستشفيات وقتل الأطفال.
إن اليوم العالمي للصليب الأحمر ليس فقط مناسبة احتفالية، بل هو دعوة لمحاسبة الضمير العالمي، وإن لم يكن الدفاع عن الطفل الفلسطيني تحت الركام من جوهر الإنسانية، فما الذي تبقى من هذه المبادئ؟!
في زمن الصمت الدولي، ندعو إلى أن يكون هذا اليوم العالمي محطة للمراجعة والمساءلة، لا مجرد مناسبة بروتوكولية، فإذا استمر الصمت، فإن الثقة بهذه المنظمات ستستمر في التآكل، وسيبقى الفلسطيني يُواجه مصيره وحيداً، في زمن اختار كثيرون فيه الحياد على حساب الحق.














