في الثامن والعشرين من مايو عام 1964، شهدت الحركة الوطنية الفلسطينية لحظة تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، التي أُسِّست لتكون الصوت السياسي الموحد للشعب الفلسطيني في معركته ضد الاحتلال، ومن المنطلق الثوري الذي انطلقت منه المنظمة، كان خيارُ الكفاح المسلح مبدأً لا يقبل المساومة أو التنازل، في ظل غياب أي بديل معترف به دولياً غير المقاومة لتحرير الأرض.
ورغم التضحيات الجسام التي قدمها الفلسطينيون عبر عقود، ترى معظم فصائل المقاومة الفلسطينية أن منظمة التحرير انحرفت تدريجياً عن مسارها التحرري لتصبح جسداً بيروقراطياً يتماهى مع سياسات التنسيق الأمني، ويحيد عن مبدأ تمثيل الشعب الفلسطيني الذي يسعى لتحرير أرضه.
كان الميثاق الوطني الفلسطيني الصادر مع تأسيس المنظمة بمثابة العقد الاجتماعي الأول بين قيادتها وملايين الفلسطينيين، حيث نص صراحة على استخدام كافة الوسائل بما فيها الكفاح المسلح لتحرير فلسطين من البحر إلى النهر، واعتمدت الفصائل المشاركة منهجاً ثورياً يرتكز على العمل الفدائي والعمليات النوعية في مواجهة الاحتلال، مع الحفاظ على الدعم الشعبي الواسع.
شكّلت اتفاقيات أوسلو منعطفاً حاسماً في مسار منظمة التحرير الفلسطينية، إذ أدّت إلى تغييرات جوهرية في دورها ووظيفتها السياسية، فقد أقدمت القيادة الفلسطينية آنذاك على توقيع اتفاق اعتبره قطاع واسع من الشعب الفلسطيني خروجاً عن الثوابت الوطنية، لا سيما مع تغييبه لحق العودة وقبوله الضمني بشرعية وجود الاحتلال، دون ضمانات حقيقية لإنهائه. وقد أسفر هذا التحول عن تراجع دور المنظمة كممثل لحركة تحرر وطني، وانتقالها إلى إطار وظيفي يُعنى بإدارة شؤون ذاتية محدودة تحت سقف الاحتلال، عبر سلطة تفتقر إلى المشروعية الثورية والتفويض الشعبي، ما ساهم في تعزيز واقع الهيمنة "الإسرائيلية" وتقويض مشروع التحرر الوطني.
مع تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994، بدأت مرحلة جديدة في المشهد السياسي والأمني الفلسطيني، تميزت بتعاون مباشر بين الأجهزة الأمنية الفلسطينية وقوات الاحتلال، تحت مظلة ما عُرف بالتنسيق الأمني، وقد تركز هذا التنسيق على ملاحقة المقاومين الفلسطينيين، وخصوصاً "المطلوبين" في الضفة الغربية وقطاع غزة، الأمر الذي مكّن الاحتلال من تنفيذ حملات اعتقال واسعة طالت كوادر وقيادات بارزة في فصائل المقاومة.
ورأت تلك الفصائل أن هذا المسار يشكل خروجاً عن نهج النضال الوطني وخيانة لدماء الشهداء الذين ارتقوا دفاعاً عن الأرض والكرامة، كما ساهم في تقويض البيئة الحاضنة للمقاومة وتراجع وتيرة العمليات النوعية ضد الاحتلال، مقابل فرض حالة من التهدئة التي تخدم مصالح الاحتلال.
في ظل هذا الواقع، شهدت منظمة التحرير الفلسطينية تراجعاً ملموساً في دورها السياسي والتمثيلي، إذ ذابت تدريجياً في ظل هيمنة السلطة الوطنية على مؤسسات القرار، وتهميش البعد التحرري الذي كانت تعبّر عنه المنظمة في مراحل سابقة، وبدلاً من أن تُشكّل السلطة رافعة للمشروع الوطني، تحولت إلى إطار إداري محدود الصلاحيات، خاضع لشروط الاحتلال، دون أن تنجح في بناء حالة سياسية موحدة تعبر عن تطلعات الشعب الفلسطيني.
ومع تصاعد الإحباط الشعبي من فشل المسار التفاوضي وتراجع الاحتلال عن التزاماته الواردة في اتفاق أوسلو، جاءت انتفاضة الأقصى في عام 2000 كنتيجة طبيعية لحالة الانسداد السياسي، وفشل السلطة في تحقيق وحدة وطنية جامعة، أو حماية الحقوق الفلسطينية. هذه الانتفاضة مثّلت تعبيراً شعبياً عن رفض الواقع القائم، وإعادة الاعتبار لخيار المقاومة كمسار للتحرر من الاحتلال واستعادة الكرامة الوطنية.
وبعد الانسحاب "الإسرائيلي" أحادي الجانب من قطاع غزة عام 2005، دخل القطاع مرحلة جديدة من التعقيد السياسي والاقتصادي، لكن الانعطافة الحقيقية جاءت عقب الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006، والتي أسفرت عن فوز حركة (حماس) وتشكيلها للحكومة، هذا التحول قوبل برفض "إسرائيلي" ودولي، سرعان ما تُرجم إلى فرض حصار مشدد على قطاع غزة، شمل إغلاق المعابر، وفرض قيود خانقة على الحركة والبضائع، وعزل القطاع عن محيطه.
في ظل هذا الحصار المتصاعد، خاض الفلسطينيون في قطاع غزة معركة استنزاف يومية، واجهوا خلالها أزمات إنسانية واقتصادية خانقة، في وقت اكتفت فيه منظمة التحرير الفلسطينية بإصدار بيانات استنكار ومناشدات للمجتمع الدولي، دون أن تقدم مبادرات سياسية أو دبلوماسية ملموسة لكسر الحصار أو التخفيف من تداعياته، ما عمّق الشعور الشعبي بالتخلي، وأسهم في ترسيخ الانقسام الداخلي وتعميق الأزمة الوطنية.
في ظل الحصار الخانق المفروض على قطاع غزة بعد عام 2006، ومع تزايد العجز الرسمي الفلسطيني عن تقديم حلول عملية، بادرت فصائل المقاومة إلى تأسيس آليات صمود ذاتي تهدف إلى تعزيز التماسك المجتمعي والتخفيف من آثار الحصار وتأمين الحد الأدنى من مقومات الحياة.
في موازاة ذلك، أولت فصائل المقاومة اهتماماً خاصاً بتطوير قدراتها العسكرية المحلية، اعتمادً على موارد محدودة وإمكانات ذاتية، في محاولة لبناء معادلة ردع أمام العدوان "الإسرائيلي" المتكرر، وتعزيز خيار المقاومة كنهج استراتيجي للصمود والمواجهة.
في المقابل، استمر تراجع دور المنظمة دون أن تنخرط فعلياً في معركة الصمود داخل قطاع غزة، لا سياسياً ولا ميدانياً، هذا الابتعاد التدريجي عن التفاعل مع واقع القطاع المتأزم، ساهم في تعميق الفجوة بينها وبين الشارع الغزّي، وأضعف حضورها الشعبي، في وقت كانت فيه غزة في أمسّ الحاجة إلى دعم وطني جامع يتجاوز الانقسام ويوحّد الجهود لمواجهة الحصار والعدوان.
واصلت منظمة التحرير تجاهل التمثيل الحقيقي لحركة حماس والفصائل الأخرى ضمن مؤسساتها، وما زاد تعقيد انفصام المنظمة عن الواقع الفلسطيني التمييز في توزيع الموارد والمشاريع التنموية التي تَحرم قطاع غزة منها، بحجة سحب الشرعية لمن لا يلتزم بخط المنظمة.
وأدى الانقسام بين الضفة وغزة منذ 2007 إلى تفتيت التمثيل الفلسطيني الرسمي، إذ رسخ هذا الانقسام حالة من ازدواجية الشرعيات؛ السلطة في رام الله، وحكومة في قطاع غزة.
أدى ذلك كله إلى فقدان المنظمة جذورها الشعبية، فوفق استطلاعات رأي محلية عديدة، منها ما أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في مارس 2022 أظهر أن الشباب الفلسطيني يفضل المشاركة في تظاهرات ومبادرات مقاومة شعبية مستقلة عن أجندة المنظمة، ويعتبرونها غير قادرة على تحقيق أي تغيير فعلي، بعد أن خيّبت آمالهم في التحرير والعودة.
وتؤكد فصائل المقاومة أن الرد الحقيقي على الاعتداءات "الإسرائيلية" المتكررة يكون من خلال تفعيل كل أشكال المقاومة، باعتبارها الخيار الإستراتيجي في مواجهة الاحتلال. ورغم التفاوت الكبير في القدرات العسكرية والتكنولوجيا المتوفرة، أثبتت المقاومة قدرتها على فرض معادلات جديدة في ميزان الردع، حيث فاجأت جميع المراقبين بقدراتها البسيطة التي تعتمد على الابتكار والتخطيط المحكم والإرادة الصلبة، مستندةً إلى الحاضنة الشعبية والتفاف الجماهير حول خيار المقاومة كوسيلة للدفاع عن الحقوق والثوابت الوطنية.
بالتالي تعزز التباين بين خطاب المقاومة الذي يدعو إلى الانخراط في معركة التحرير الشاملة، وخطاب المنظمة الذي يتردد بين دعاوى المفاوضات ونداءات التهدئة، ويلاحظ على أرض الواقع أن فصائل المقاومة تحظى بتأييد شعبي واسع، لأنها تقدم نموذجاً للوفاء بالدم الفلسطيني، مقابل بُعد المنظمة عن التضحية الفعلية.
وترى فصائل المقاومة أن الوحدة الوطنية العميقة لا تتحقق إلا بعودة السلطة إلى الشعب عبر انتخابات تشريعية ورئاسية جديدة في الضفة وقطاع غزة، تشمل جميع الفصائل دون استثناء، وتشكيل حكومة وطنية تركز على إعادة بناء البنية التحتية للقوى الوطنية وتعزيز مقاومة الاحتلال.
وفي الختام، فإن منظور فصائل المقاومة تجاه منظمة التحرير الفلسطينية أنها فقدت وظيفتها الثورية والتحررية، وذابت بعد إيجاد السلطة، التي تحولت إلى هيئة تفاوضية تتماهى مع سياسات التنسيق الأمني وتنجرف وراء منطق التفاوض العقيم الذي يفتقد لأدنى أدوات القوة التفاوضية، وفي ظل استمرار العدوان المتواصل على قطاع غزة، يبرز الدور المحوري للمقاومة بكل أشكالها والوحدة الوطنية الحقيقية، كخيار لإنقاذ القضية الفلسطينية.
وحتماً، فإن إعادة بناء منظمة فلسطينية جامعة ومستقلة تُعيد الاعتبار لثوابت الثورة وتُكرّس مبدأ الشراكة الشعبية، يُعدّ خطوة ضرورية لا يمكن تأجيلها، وتتطلب إرادة سياسية حقيقية وشجاعة وطنية تتجاوز الحسابات الفئوية الضيقة، فانتشال المشروع الوطني من براثن الانقسام والجمود يستدعي حواراً شاملاً وجاداً يفضي إلى إعادة ترتيب البيت الفلسطيني على أسس ديمقراطية وتوافقية، تُعبّر عن طموحات الشعب وتطلعاته نحو التحرير والعودة وبناء الدولة المستقلة.














