*زمن الأسئلة المؤجلة*
منذ النكبة عام 1948 ، ظلّ الفلسطيني يُدفَع دفعًا للتعامل مع ما يُفرض عليه، لا مع ما يجب أن يختاره. لقد تأجلت الأسئلة التأسيسية الكبرى تحت وطأة الهزيمة والشتات، واكتفى كثيرون بالإجابة على سؤال “كيف نعيش؟” بدل “من نحن؟” و”إلى أين نتجه؟”. لكن طوفان الأقصى، الذي فاجأ العالم بقدر ما فاجأ الداخل الفلسطيني، أعاد فتح أبواب الأسئلة الحارقة: من نحن؟ ماذا نريد؟ وكيف نحقق ذلك؟
*أولًا: من نحن؟ الكينونة التي حاول الاستعمار تفكيكها*
تعرّف الشعوب نفسها – كما يقول مالك بن نبي – من خلال قدرتها على تحويل التاريخ إلى وعيٍ فاعل، لا مجرد ركام من الذكريات. والفلسطيني ليس فقط نتاج مأساة أو شهادة لاجئ، بل هو وريث مشروع تحرري عابر للأجيال، تحاول الصهيونية تفكيكه وتحويله إلى فئات متناحرة ومجتمعات خائفة.
هنا يستحضرنا قول فرانز فانون:
“ليست الثورة مجرد تغيير سياسي، بل هي أولاً عملية إعادة صياغة الإنسان الذي حاول الاستعمار تشويهه.”
لقد حاول الاستعمار الإسرائيلي تجريد الفلسطيني من تعريفه الجوهري، لكن طوفان الأقصى أعاد إليه اسمه الأول: المقاوم. لا هوية بعد الآن تُعرّف بالهزيمة أو بالرقم الوطني، بل بالموقع من الصراع. عاد الفلسطيني ليتحدث بلغة التحدي لا بلغة الاستجداء.
*ثانيًا: ماذا نريد؟ استعادة بوصلة التحرير*
في زمن التكيّف السياسي، ساد خطاب يريد “الحد الأدنى الممكن” بدل الحق الكامل. لكن كما يؤكد إدوارد سعيد، فإن
“من المعيب أن نُصغّر من مشروعنا التحرري كي يناسب مقاسات أدوات القمع العالمية.”
الفلسطيني لا يريد دولة على الورق، بل وطنًا على الأرض. لا يبحث عن مظلة تفاوض، بل عن مسار تحرر. وهنا نعيد التذكير بأن الشعوب لا تتحرر بالتسويات، بل بالإرادة، كما قال غرامشي:
“التشاؤم من العقل، والتفاؤل من الإرادة.”
الفلسطيني يعرف تمامًا أن العقل السياسي الدولي قد يئس من تحريره، لكن الإرادة الجمعية – كما ظهرت في الطوفان – لم تيأس من فلسطين.
*ثالثًا: كيف نحقق ذلك؟ من المقاومة المسلحة إلى المشروع المعرفي*
لقد علّمنا علي شريعتي أن
“كل تحرر بلا وعي يتحول إلى استبداد، وكل وعي بلا فعل يتحول إلى خطابة.”
لذلك لا تكفي العمليات النوعية – على ضرورتها – لصناعة مشروع تحرري، بل لا بد من مأسسة الوعي المقاوم، عبر بناء مشروع وطني لا يقوم على “المصالحة بين أطراف” بل على إعادة تعريف التحرير كمفهوم جامع.
وقد قيل في نقد الأنظمة النيوليبرالية، أن:
“أخطر ما تصنعه السلطة هو إقناعك بأن الواقع لا يمكن تغييره.”
وهذا بالضبط ما فعله أوسلو طوال ثلاثين عامًا. لكن ما فعله الطوفان هو العكس: كسر وهم استحالة الانتصار.
إن الطريق ليس سهلاً، لكن كما كتب عبد الوهاب المسيري:
“الطريق إلى التحرر ليس صعودًا بيانيًا، بل هو وعي تراكمي يعيد تشكيل الإنسان الفلسطيني.”
*رابعًا: الطوفان كاشفًا ومُعيدًا للتأسيس*
أعاد الطوفان ترتيب المشهد. كشف ما سُتر، وسقطت أقنعة “الدولة الحامية”، “التنسيق الأمني”، و”الشرعية الدولية”. برز الفلسطيني كفاعل معرفي وسياسي، لا كمجرد ضحية.
قال مهدي عامل:
“حين تفكّر من داخل شروط قمعك، فأنت لا تفكّر، بل تعيد إنتاج القمع.”
الفلسطيني الذي يفكر بمنطق “الدولة ضمن الاحتلال” يعيد إنتاج فشله. أما الذي يفكر من منطق المواجهة، فهو الوحيد الذي يكتب التاريخ.
*أي فلسطين نريد؟ وأي وعي نحتاج؟*
لقد أعادنا الطوفان إلى الأسئلة التي ظنها البعض ماتت:
• من نحن؟ نحن أبناء فلسطين التاريخية، لا أسرى حدود 67.
• ماذا نريد؟ نريد تحريرًا حقيقيًا، لا علمًا على جدار مقيد.
• كيف نحقق ذلك؟ بوحدة الميدان، وبمشروع معرفي تحرري يرفض الهزيمة المعنوية.
قال مالك بن نبي يومًا:
“القضية لا تموت لأن عدوها قوي، بل لأن أهلها ضعفاء الوعي.”
والطوفان جاء ليقول: نحن لم نمت… بل نحن في طور الولادة من جديد














