يتساءل كثيرون حول حجم التناقضات التي تجمعها كل من التصريحات والبيانات الصادرة عن مستويات القرار الأمريكي بدءاً من أعضاء في الكونجرس الأمريكي وليس انتهاءً بموظفي مكتب الرئاسة في البيت الأبيض بل إن غالبية المراقبين قد لمسوا حجم تلك التناقضات في تصريحات الرئيس ترامب نفسه، خاصة إذا ما تعلق الأمر بالمقاربات السياسية التي يتم طرحها بشأن المحافظات الجنوبية في فلسطين (محافظات غزة) ما يطلق عليه عبثاً "قطاع غزة" وكأنه قطاع طرفي في دولة "اسرائيل" شأنه شأن أي قطاع طرفي نائي ومنبوذ لا يُعامَل معاملة طبيعية.
بينما في المقابل هناك تساؤل لماذا امتنعت العوالم العربية والإسلامية والغربية طيلة ١٨ شهراً ويزيد وما سبقها من عقود من الظلم والقتل والاعتقال والاحتلال بكل أشكاله البشعة عن ممارسة دور ضاغط ومؤثر لوقف الابادة الجماعية المسعورة بحق الكل الفلسطيني في القدس والضفة الغربية وغزة وكذلك الداخل المحتل، كي لا تصل الأوضاع لما وصلت له اليوم.
أم أن ظروف البيئة الدولية وتحديداً الموقف الأمريكي من تهميش واضح لأزمة أوكرانيا بالإضافة للخشية من الاهتمام الأمريكي بالشرق الأوسط على حساب الصراعات التي تهدد الأمن القومي الأوروبي، وكذلك محاصرة القرار والنفوذ العربي وتهديد الأمن القومي لدول المنطقة كونهم جزء من معادلة الصراع مع دولة الكيان "اسرائيل" شاءوا أم أبو لهذا يسارع الجميع التحرك بعد أن استيقضوا متأخرا.
وليس بعيداً عن المشهد محاولة إيران بسط نفوذها وتعزيزه في منطقة البحر الأحمر من خلال تفعيل دور جماعة أنصار الله الحوثي في اليمن "مستثمرةً بذلك شرف الدفاع عن غزة وفلسطين" باختبار منظوماتها اليمنية على الطراز الإيراني بلمسات صينية، مما دفع الأمريكي للاتفاق مع الجماعة من خلف ظهر "اسرائيل" وهذا بذاته مكتسباً سياسياً حققته أنصار الله ومن خلفها إيران والصين.
وعلى صعيد آخر؛ لقد تجلّت التسوية السياسية في سوريا حين قُطعت الطريق على النفوذ الإيراني فيها واستبداله بالنفوذ التركي على حساب المشروع الفلسطيني الذي كان يفترض أن يكون مشروع الأمة ولكن الأمة بتفرقها جعلت منه مشروع استثمار سياسي وورقة مساومة ملطخة بدم الأطفال والنساء لأجل تمرير المصالح الجزئية متجاهلين أنّ أصل المشكلة تاريخياً متمثل بهزيمة تركيا النكراء زمن الحربين العالميتين الأولى والثانية، وهو بدوره ما لا يعفي تركيا تاريخياً من مسؤولياتها تجاه شعوب المنطقة التي كانت درع وسيف في يد الدولة العثمانية عبر الزمن، وتحديداً الدور الذي قدمته غزة في الدفاع عن أراضيها الممتدة، ومقابر الشهداء الغزييين في تركيا لا زالت شاهدة على ذلك.
وعودٌ على ذي بدء فإن المراقب يلمس كيف يتم توظيف القضية الفلسطينية عبر زمن الصراعات الممتدة في تاريخ المنطقة للمساومة والابتزاز وتوصيل الرسائل الميدانية فيما بين الأقطاب وحلفائهم، نظراً لأهمية الموقع الجيوسياسي لفلسطين في شرق المتوسط.
حيث ما زال يبرز التوظيف الذميم جلياً في إذكاء الصراعات في المنطقة بإطلاق العنان لماكينة الحرب "الاسرائيلية" التي هي في الأصل إبناً أمريكياً النسب "إسرائيلياً" بالتبني وذلك بهدف تظهير التكنولوجيا والقدرات الأمريكية المهولة والفتاكة من خلال الإمعان في القتل والفتك بشعوب المنطقة العزّل دون أي وازع يُذكر.
كما يبرز ذلك التوظيف البشع من خلال الاستقطاب الموجه داخل أروقة المنظمات الدولية الصنمية المتعددة، ومعضلة احتكار خمسة دول بعينها لرئاسة مجلس الأمن، ناهيكم عن استخدام حق الڤيتو لتعطيل المشاريع بهدف المساومة السياسية.
ولعل هذا التوظيف اللعين يظهر عبر إذكاء الصراعات الداخلية والبينية في الإقليم من خلال رفع مستويات التسليح من قبل الأقطاب المتنافسة للحلفاء والوكلاء وهذا بدوره ما عبّر عنه مؤخراً زيارة الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" لكل من المملكة السعودية والإمارات وقطر، مستبعداً بدوره الفواعل التقليدية مثل الجمهورية مصر والمملكة الأردنية و"إسرائيل" في إشارة واضحة لشكل نسق القوى الإقليمي المبني على الرؤية الأمريكية التاريخية التي تتغذى على الصراعات والأزمات، والتي تتبع سياسة إلتقاط الجمر بملقط الوكلاء وغيرهم.
وعليه فإن؛ التناقض في السياسة الأمريكية ما بين المنطوق والفعل بات غير مستغرباً.
إنما هو يعبّر في شكله ومضمونه عن السياسة الأمريكية الاستعمارية الواقعية القائمة على مبدأي القوة والمصلحة، وتقسيم المقسم وتجزيئ المجزأ والتي لا تولي أي اعتبار لحقوق الإنسان ومصالح الغير من البشر. بينما تسعى الفواعل من الدول ومن غير الدول لانتهاز الفرص للاستثمار والسعي للخروج من المشهد أكثر ربحاً وأقل خسارة.
وبناءً على ماسبق؛ فإن أمريكا تحاول جاهدة استثمار الصراع الدائر في المنطقة لاسيما العدوان الغاشم على المدنيين العزّل في فلسطين لخدمة توجهاتها السياسية ومصالحها الجيوستراتيجية والجيوسياسية باعادة هندسة شكل أنساق القوى والقوة في المنطقة من خلال منح السعودية والإمارات دوراً أكثر فاعلية في الإقليم يمنحها نفوذاً أوسع وأعمق بهدف مواجهة النفوذ الإيراني ومن خلفه الصيني، وبما يغطي المساحة الفاقدة التي تسبب بها الحليف الاستراتيجي "اسرائيل" بعد ما مني بها في السابع من أكتوبر ٢٠٢٣م.
وغالب الظن وطبقاً للواقعية الأمريكية الحالية وكما يبدو من السلوك الأمريكي أن "إسرائيل" باتت في محل الريبة والشك حول قدرتها على حماية المصالح الأمريكية في المنطقة، خاصة بعد تبدد آمال وطموحات مشروع ناتو الشرق الأوسط بقيادة "اسرائيل
وهو بدوره ما استدعى الولايات المتحدة للمسارعة في سحب البساط من تحت أرجل الصين وروسيا ودول أخرى قبل أن تملآن الفراغ الذي تسبب به الإخفاق "الإسرائيلي" في الشرق الأوسط كون أن الصين وروسيا كانتا تهيئان دول المنطقة لذلك قبل السابع من أكتوبر ٢٠٢٣م.
وبناءً على ما سبق؛ يرى باحثون أن عدم الجدية في التوجه الأمريكي لوقف المذبحة في فلسطين كما وصفتها وزيرة الخارجية الأمريكية في إدارة ترامب إنما يهدف لكسب مزيد من الوقت لاشغال المنطقة على حساب دماء الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية المحتلتين لغاية تمكين المقاربة السياسية التي تعيد قطار المنطقة إلى خطوط السكك الأمريكية على النحو التالي.
على الصعيد التركي؛ تم منح تركيا امتيازات أمنية مغرية ودوراً في سورية بعد تسوية الصراع فيها.
الهدف الرئيسي؛ تحييد تركيا عن القضية الفلسطينية، وضمان استمرارية الوجود الأمريكي آمناً شرق الفرات، بالإضافة إلى كبح النفوذ الصيني والروسي والإيراني في سوريا.
على الصعيد السعودي؛ تم منح السعودية امتيازات استراتيجية متعلقة بالتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والأسلحة والاستثمارات الإقتصادية المليونية وصولاً لمنحها مشروع نووي سلمي، في مقدمة لدور سياسي شبه مهيمن يعبّر عن مكانة قيادية في الإقليم.
وهذا بدوره يضمن للمملكة تفوقاً على إيران وتكافؤ مع "اسرائيل" بما يحفظ التوازنات في نسق القوة والقوى الإقليمية.
الهدف الرئيسي؛ ابعادها عن القضية الفلسطينية المركزية، وجعلها قضية هامشية بادعاء حرمان إيران من توظيف القضية الفلسطينية لتعزيز نفوذها القاضي بتوسع النفوذ الصيني في الشرق الأوسط وهذا الذي يزعج الولايات المتحدة الأمريكية بطبيعة الحال.
وبالتالي؛ يمنع عودة القضية الفلسطينية القضية المركزية للأمة، وتبقى البوصلة متجهة نحو الخطر الوهمي المتمثل بإيران بحسب الزعم الأمريكي.
على الصعيد المصري: يتم منح القاهرة امتيازات لوجيستية وسياسية بصفقات أسلحة جديدة، ومنحها ضوء أخضر لعقد مصالحة وطنية زائفة، في المقابل ابتزازها بورقة تهجير الغزيين غير الواقعية.
الهدف الرئيسي؛ تحييد القاهرة عن القضية الفلسطينية من خلال ضمان مرور أمريكي من قناة السويس آمن وتواجد في جزيرتي تيران وصنافير، وممارسة مزيد من الضغط على الفلسطينيين للاستسلام والقبول بالمقارنة الأمريكية.
على الصعيد الأردني؛ لا يختلف الحال عن الظروف المصرية مع بعض الفروقات، لكن الهدف واحد وهو تحييد الفواعل وعزل القضية الفلسطينية لفرض أمر واقع جديد في شكل التحالفات الأمريكية في المنطقة، بناءً على نسق قوة وقوى إقليمي يخدم مصالح أمريكا ونفوذها المتصدع في المنطقة.
وقد سبق وتحدثت عن الوضع في سوريا وإيران وننتظر ما سينبثق عن المفاوضات الجارية بينها وبين الولايات المتحدة الأمريكية وما إذا كانت ستحافظ على الموقف الايراني الداعم للقضية الفلسطينية أم أنّها أيضاً ستقبل الحياد في مقابل صفقة مجزية مع أمريكا هذا ما ستؤكده الأيام القلائل القادمة.
ختاماً، إن أمريكا ودول المنطقة باتو اليوم يوظّفوا القضية الفلسطينية وتحديداً شلاّل الدم النازف في المحافظات الجنوبية الفلسطينية "غزّة" كورقة سياسية للمساومة بهدف تحقيق المصالح الخاصة بكياناتهم وكذلك إعادة هندسة التحالفات في المنطقة بما يخدم تعزيز النفوذ في الشرق الأوسط في مواجهة توسع نفوذ المنافسين مثل الصين وروسيا.
لذا هي تلعب في هذه الورقة من خلال دمج موارد قوتها الناعمة بالصلبة المتمثلة بالتصريحات الأكثر إنسانية في ظاهرها دون تجاوز حد الحديث عن الوضع ببعده الإنساني، وممارسة أدوار دبلوماسية أكثر فاعلية في إغراء الفواعل، مع موارد قوتها الصلبة المتمثل باطلاق العنان لربيبتها "إسرائيل" بالقتل والفتك وإبراز كل ما لديها من "ماكينات للقتل" قامت بهندستها عقول الولايات المتحدة الأمريكية في إشارة لكل المراقبين من الفواعل الدولية.
وهذه الظاهرة ما أطلق عليه منظّر القوة الناعمة (جوزيف ناي) بالقوة الذكية. حيث نصح ناي الإدارة الأمريكية بعدم الاكتفاء بتوظيف مواردها من القوتين الصلبة والناعمة دون الدمج بينهما كي لا تخسر صورتها ومكانتها الدولتين.
وأكرر ما جاء في عدة مقالات كتبتها قبل السابع من أكتوبر ٢٠٢٣م لا بد من تجريد القضية الفلسطينية من أي تحالفات لا تغني ولا تسمن من جوع، وتعميق البحث في المسار التاريخي للحركة الوطنية والقضية الفلسطينية بعمق وشفافية وتجرد، واستخلاص الدروس والعبر، وبناء العلاقات على مبدأ المصلحة الوطنية العليا الخالصة للشعب الفلسطيني ومستقبل أبنائه، ويسبق ذلك أهمية التفكير في كيفية بناء الإنسان الفلسطيني أولاً قبل أي شيئ، حتى لا يصبح الفلسطيني أداة وظيفية بعلم أو بغيره والأمران في الجُرم سواء، وكي لا يكون الدم الفلسطيني فاتورة تُدفع لتقديم مصالح فواعل وتأخير أخرى، ويظلّ الواقع عدمي لا سمح الله كما هو عليه الآن.
يطول المقام في شرح المقال وما قيل أقل بكثير مما لم يقال، وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.














