ستبقى “عملية طوفان الأقصى” لحظةً مفصلية في التاريخ الفلسطيني والعربي، لا بوصفها مجرد هجوم مسلح أو مفاجأة تكتيكية، بل بصفتها حدثًا كاشفًا، غيّر في البنية العميقة للصراع، وهزّ استقرار المعاني التقليدية التي طالما أحاطت بالقضية الفلسطينية. وككل لحظة مفصلية كبرى، فإنّ التعاطي معها لا يمكن أن يُحسم بمنطق الأحكام العاجلة أو الانفعالات المؤقتة، ولا حتى بالتقييم السياسي المحدود بسقف اللحظة. ذلك أنّ الأحداث المؤسسة لمسارات تاريخية جديدة لا تنكشف مآلاتها في حينها، بل عبر تفاعلاتها اللاحقة، وما تُنتجه من تحوّلات على مستوى الفكر والبنية والممكنات المستقبلية.
من سؤال اللحظة إلى سؤال الاستراتيجية
إنّ التحدي الحقيقي لا يكمن في “الحكم على الطوفان”، بل في الوعي بنوع الأسئلة التي ينبغي طرحها بعده. فبدلاً من استنزاف الجهد في إصدار تقييمات نهائية مبنية على آثار آنية أو مقارنات سطحية، يجب أن نتجه إلى ما هو أكثر عمقًا وأبعد مدى: ما الذي كشفه هذا الحدث؟ وما الذي فرضه علينا؟ وما هي فرص المستقبل التي يمكن اقتناصها في ضوء هذا الكسر التاريخي الكبير؟
ربما يكون من المبكر القول إنّ طوفان الأقصى قد غيّر المعادلة بالكامل، ولكن المؤكد أنه كسر نمطًا ثابتًا امتد لعقود، وفجّر تراكمات كامنة، وأجبر النظام الإقليمي والدولي على إعادة النظر في خرائطه وتصنيفاته. وهذا وحده يُحيلنا إلى الضرورة القصوى لإعادة تموضع فكري وسياسي، لا ينطلق من أوهام الانتصار اللحظي، ولا من نزعة جلد الذات، بل من فهمٍ عميق لتاريخ الصراع ومآلاته الممكنة.
التاريخ لا يحكم في لحظته
منذ نكبة 1948 وحتى اليوم، مرّت القضية الفلسطينية بمحطات مفصلية، كان من الصعب—وربما المستحيل—أن تُقيَّم بشكل دقيق في حينها. فالنكسة لم تُفهم لحظتها إلا بوصفها انهيارًا عسكريًا، قبل أن يتضح أنها كانت لحظة انتقال جذري في مسار العمل الفدائي. والانتفاضة الأولى لم تُقرأ في حينها كتحول بنيوي في العقل الجمعي الفلسطيني، إلا بعد أن غيّرت شكل المقاومة وفرضت مسارات جديدة.
و”طوفان الأقصى” ليس استثناءً، بل هو جزء من هذه السلسلة التاريخية التي لا تُفهم إلا عبر مآلاتها. من هنا فإنّ من العبث محاولة حسم دلالاته خلال شهوره الأولى، ومن التسرع الظنّ أن تأثيراته باتت معروفة أو محصورة. فالأحداث الكبرى تُنتج آثارًا متوالدة، لا تُقاس فقط بالدمار أو الصدمة، بل بمدى ما تحدثه من تحوّل في البنية الإدراكية للشعوب، وفي هندسة الخطاب السياسي، وفي ترتيبات التوازن الإقليمي.
حدود التقييم وأفق التحول
كل حدث كبير يُنتج طيفًا من الآثار المتفاوتة: سلبية وإيجابية، مباشرة ومؤجلة، ميدانية ونفسية، سياسية وثقافية. والتعامل مع هذه التداعيات لا يكون بالتمني ولا بالحياد، بل بمستوى الكفاءة في إدارتها. ولعلّ جوهر المسألة هنا لا يكمن فقط في طبيعة الحدث، بل في طبيعة العقول التي تتعامل معه. إذ ما يُقرر المصير ليس حجم الألم أو المجازر أو الحصار، بل القدرة على تحويل المحنة إلى منطلق، والخسارة إلى وعي، والارتباك إلى تصميم استراتيجي.
نعم، هناك آلام كبرى، وتكلفة بشرية ومجتمعية هائلة، لكنّ السؤال الأهم: كيف نحوّل هذا الألم إلى طاقة تأسيسية؟ كيف نحمي المنجز الرمزي والسياسي للطوفان من التشويه أو التبديد؟ وكيف نضمن أن لا يتحوّل النصر المعنوي إلى حالة إنشائية بلا امتدادات عملية؟
التفكير إلى الأمام: خيار أم ضرورة؟
في ظل حجم الكارثة التي خلّفها العدوان الإسرائيلي على غزة، وفي ظل انسداد الأفق السياسي وغياب العدالة الدولية، من السهل السقوط في فخ التسليم بأن الواقع قدرٌ لا يمكن تغييره. لكنّ الخطورة هنا لا تكمن في الواقع ذاته، بل في الاستسلام لشرطيّته، والنظر إليه كحقيقة نهائية.
الصبر الاستراتيجي ليس قبولًا بالكارثة، بل هو طريقة تفكير ترى ما بعدها. أن تُبقي عينيك على المستقبل، حتى وأنت تمشي وسط الدمار. أن تعرف أن الغبار سينقشع، وأن الجراح رغم عمقها ليست نهاية الحكاية. هذا لا يعني التقليل من فداحة ما جرى، بل تعميق الوعي بأن الكوارث ليست فقط محطات ألم، بل أيضًا نوافذ لإعادة هندسة الممكنات.
مسؤولية النخبة وصناعة الاستجابة
يبقى التحدي الكبير اليوم أمام النخبة الفلسطينية والعربية: كيف نحمي مكاسب الوعي؟ كيف نحوّل الزخم الشعبي إلى رؤية منظمة؟ كيف نعيد ترتيب أولوياتنا الفكرية والسياسية؟ ليس المطلوب أن نُجمع على التفاصيل، ولكن أن نتحرّك من موقع الشعور بالمسؤولية التاريخية. فالمعركة الآن لم تعد فقط في الميدان، بل في اللغة، في التأويل، في الإدارة، في البناء.
إنّ أبرز ما يتطلبه هذا الواقع هو انتقال الوعي من اللحظة إلى المرحلة، ومن الفعل إلى البناء، ومن الحدث إلى الاستراتيجية. وهذه مهمة لا تقع على المقاومة وحدها، بل على الجميع: المفكرون، الإعلاميون، صانعو القرار، الشباب، والشتات الفلسطيني. كل هؤلاء معنيون اليوم بأن يكونوا جزءًا من المعركة: لا ضد الاحتلال فقط، بل ضد الارتخاء، وضد التسليم، وضد التكلس السياسي الذي حوّل الفاجعة إلى طقس يومي.
في الختام
ليست وظيفة المرحلة أن نبحث عن مديح أو تثبيط، بل أن نُعيد إنتاج أنفسنا كأمة تقرأ الأحداث بوعي استراتيجي لا بعين اللحظة. أن نعرف بأنّ الطوفان لم يكن فقط ردًّا على انسداد سياسي، بل إعلانًا عن ميلاد مرحلة جديدة من التاريخ الفلسطيني. وكل ما نحتاجه الآن هو ألا نخون هذا الميلاد، لا بالاستعجال، ولا بالخذلان، بل بأن نكون على قدر المسؤولية: نُفكر إلى الأمام، ونُحسن إدارة الآلام، ونبني من تحت الردم مشروعًا لا يُهزم














