جسراً للعبور لا سلماً للنزول
19 Aug 2025

تبني بعض الأصوات سرديتها لما يجري في قطاع غزة وعموم فلسطين من حملة إبادة ومخطط جاريلتصفية القضية انطلاقاً من رؤية مشوّهة للتاريخ والحاضر، تنزع الأحداث الكبرى عن سياقها التاريخيالمتراكم، لتمنح غطاءً "عقلانياًيبرر ويقود برنامجاً انهزامياً بكل عناصره الثقافية والسياسية، ما يسمحبتقديم التنازلات باعتبارها إنجازاً وإنقاذاً للشعب والقضيةهذا التضليل سواء كان مقصوداً أم لا، يعكسانهزاماً وتبعية للغرب، وتسليماً عملياً بالواقع، وينقلنا لمشهد نضطر فيه أن نبيّن أننا نتعرض لهجوممتعدد المستويات من الغرب، عوضاً عن مناقشة أساليب المواجهةكمثال صارخ على ذلك نشير إلىاعتبار البعض طوفان الأقصى مغامرة عسكرية غير محسوبة لحركة حماس ليبرر ليس فقط حيادهوتخاذله عن نصرة القضية بل تواطؤه العلني، عوضاً عن رؤية المشهد الأوسع والسياق التاريخي المتراكمباعتبار الطوفان نتيجة طبيعية لعقود من الظلم والقتل والإرهاب وهو ما أقر به الأمين العام للأممالمتحدة ذاته في خطابه أمام مجلس الأمن بتاريخ 24 أكتوبر 2023 حين قال:( من المهم أن ندرك أنهجمات حماس لم تحدث من فراغ، وأن هذه الهجمات لا تبرر لـ"إسرائيلالقتل الجماعي الذي تشهدهغزة).  


رغم ذلك يصر البعض على تقديم قراءة احتكارية مهزومة للتاريخ تنطلق من أعمدة الرواية الغربيةالمهيمنة، لا من لسان الشعوب التي تكتب تاريخها وتخلده بالدم والتضحيات، وهو ما يشكل جلد إضافيللذات وتحميل الضحايا أوزار مقاومتهم التي لم تلتزم بنصائح المدرسة الواقعية كما يطلقون علىأنفسهمهذا ليس تفصيلاً بسيطاً، بل هو انعكاس لهجوم إيديولوجي غربي قديم متجدد، عمره من عمرالاستعمار لشعوبنا، يستهدف ضرب مبدأ المقاومة ذاته، وترويض الشعوب، وتوجيهها للتفاوض على أقلالخسائر في سوق الاستعباد، لا على كسر قيود الهيمنة ذاتها.


أصحاب هذه القراءات الانهزامية يعجزون عن تفسير الأحداث الكبرى سلباً وإيجاباً، ويلجؤون للبحث عنخطايا الضحايا من الشعوب لتبرير جرائم المحتلين، يغرقون في التفاصيل لدرجة تجعلهم خانعين وغيرقادرين على رفع رؤوسهم ورؤية المشهد كاملاًلذا يقفزون عن مسار الأحداث الكبرى في منطقتنا بدءاًمن وعد بلفور مروراً بالنكبة الفلسطينية عام 1948، وقد يصل بهم الحال لاعتبار رفض قرار التقسيمورفض مغادرة فلسطين والدفاع عنها مغامرة أدت للنكبة والتشريد واللجوء.


يقودنا هذا لكشف زيف التباكي على ما يجري في قطاع غزة، والاتهامات الباطلة للمقاومة الفلسطينيةوحركة حماس بعدم الاكتراث بحياة الشعب الفلسطينيفحركة حماس والمقاومة الفلسطينية تتفاعلعلى اعتبار أن كل روح، وكل بيت وكل شجرة خسارة فادحة، وأن شعبنا يتعرض لعملية إبادة جماعية،وتطهير عرقي متواصل منذ قيام الحركة الصهيونية، وهذا هو السياق الصحيح لكل عملية مقاومة بغضالنظر عن ردة فعل الاحتلال وإرهابه، وهذا بالضبط ما يجعل المقاومة الفلسطينية عصيةً على الانكساربغض النظر عمّن يحمل لواءها، ويجعل العديد من قيادات الاحتلال العسكرية والأمنية يجزمون بأنه منالمستحيل القضاء على حماس بالتصور الذي يطرحه التيار المسيحاني في الكيان.


الزمن يتغير، وما كان يصلح لتحليل حدث في حقبة معينة، لا يعني بضرورة الحال أن ينطبق على حقبةأخرى... هذا كلام صحيح في ظاهره، طالما لا ينتهك قوانين ثابتة لا تتغير بتغير الفاعلين، وأحد أهم هذهالقوانين مبدأ وحدة الأضدادوكمثال على ذلك نشير أن أحداً من فصائل منظمة التحرير في عقودالستينات والسبعينات والثمانينات لم يحيّد نفسه في ميدان مقاومة الاحتلال، ذلك على الرغم منالخلافات الكبيرة إبان أيلول الأسود، وبعد إقرار برنامج النقاط العشر عام 1974. لم يقل أحد لأبطالالعمليات الفدائية حينها بأنهم يمنحون الكيان الذريعة لاجتياح لبنان واحتلال عاصمته، وارتكاب إبادةفاق عدد ضحاياها 30 ألف فلسطيني ولبناني، على مرأى ومسمع من الصديق والعدوتلك كانت باعترافميناحيم بيغن أنها حرب خيار وليست حرب ضرورة، وهذا دليل إضافي على أن الاحتلال وايديولوجيتهالإرهابية لا يبحث عن ذرائعلكننا اليوم نجد حركة فتح بشقيها، وبعض الكتاب الذين يدورون في فلكها لايتوانون عن تحميل حركة حماس مسؤولية ما يجري من إبادة طيلة العامين الماضيين، لدرجة أن أحدالمذيعين استغرب الأسبوع الماضي قيام أحد قيادات فتح بالحديث بشكل موضوعي ومسؤولية وطنية.


في جوهر هذه التباينات الفلسطينية الداخلية يبدو أن العديد لم يستطع تجاوز صغائر الخلافات القديمةأمام فداحة ما يحدث من سياسة إبادة وتصفية للقضيةوهذا يعكس خلل خطير في البوصلةوالأولويات، إذ لا يمكن منطقياً تبني سياسة تعتبر حماس خارجة عن الإجماع الوطني، وخاصة في هذاالوقت العصيب الذي تمر به القضية والمنطقة ككلآخذين بالاعتبار أن كافة الفصائل صاغت إجماعاًشاملاً في إعلان بكين /يوليو 2024، لكن حركة فتح تواصل رفض تنفيذ ما اتفق عليه مراراً وتكراراً، وتبدوسياستها عملياً كمن يستقوي بالاحتلال لإضعاف حماس وإجبارها على الموافقة على شروط صاغهاالاحتلال نفسه، وترفضها غالبية القوى سواء داخل أو خارج المنظمة، ذلك عوضاً عن رؤية المشهدبشموليته وعمقه في ظل حملة إبادة ومخطط تصفية للقضية يتجاوز بكثير مسألة أسرى الاحتلال أوسلاح المقاومة.


إن القول بضرورة مد السلم لحركة حماس لإنزالها عن الشجرة، مقاربة مضللة وقاصرة عن فهم ما يجريليس فقط في فلسطين، بل الإقليم والعالم كله...ذلك أن تلك المقاربة تعتبر بقية الأطراف حيادية فيصراع بين حماس والكيانحياديين أمام هذا الاحتلال الذي يقتل ليل نهار برصاصه وقنابله وصواريخهوتجويعه كل أبناء شعبنا دون تمييز، الذي يطلق قطعان مستوطنيه لقضم الضفة، والذي يعلن رئيسوزرائه المطلوب لمحكمة الجنايات الدولية بالفم الملآن أنه في مهمة تاريخية وروحية لإقامة إسرائيلالكبرى ! والذي يستعبد أمتنا ويسلبها روحها ويعيد تشكيل هويتها انطلاقاً من قناعاته التوراتية التياستطاع تحويلها لبرنامج سياسي للغرب بأكمله، برنامج يقوم على جر العالم لصراع حضارات كما يشيركتاب صامويل هنتغتون، وكما تشير عشرات الكتب لكبار الساسة والمحللين الاستراتيجيين في الغربلذا، وانطلاقاً من هذا الفهم، فإن الأزمة في جوهرها هي لأمة كاملة، والسلم الواجب وضعه هو جسرالعبور نحو التحرر الحقيقي، نحو ضوء الحرية والكرامة والخروج من نفق الهوان والعبودية، هو الجسرالذي يبنيه شعبنا الفلسطيني وقواه المقاومة بتضحيات جسيمة، يستمعون لصوت القائد الشهيد أبوالعبدلن نعترف بإسرائيل.

المواضيع ذات الصلة
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
الخديعة الكبرى: كيف شرعنّت واشنطن ضم الضفة وخطّت تهجير فلسطين — ترامب مهندس المصيدة
02 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
المطلوب من قادة العرب في قمة الدوحة
13 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
الاغتيالات الإسرائيلية قوة متوهَّمة أم إقرار بالضعف البنيوي؟
10 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
مصر مركز الحسم في الصراع الإقليمي
07 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
منظمة شنغهاي والتداعيات المحتملة على واقع الحرب في غزة
02 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
من غيتو وارسو إلى غيتو رفح: مخطط الاحتلال لقتل وتهجير أهل غزة
24 Aug 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
إسرائيل الكبرى": من الأساطير التوراتية إلى خرائط الهيمنة على الجغرافيا العربية
16 Aug 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الإقتصادي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي| المقال القانوني
بين برلين وغزة وفارق المساعدات الجوية
07 Aug 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
حين تُصبح المساعدات سلاحًا ضد الحقيقة قراءة في قرار ترامب وانهيار الرواية الصهيونية في الداخل الأميركي
05 Aug 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
الحربُ الخمسيَّة على غزة وتبادل الأدوار لمَ هذا والمستهدَفُ جائعٌ وأعزل؟!
03 Aug 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
قطاع غزة: بين ازمة المثقف الفلسطيني والعربي
31 Jul 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
ملاحظات حول مؤتمر نيويورك للاعتراف بالدولة الفلسطينية
31 Jul 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الإقتصادي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
‎الولايات المتحدة وتأجيج الصراعات الإثنية والقومية: تكتيك جيوسياسي لكبح الصين وتطويق الخصوم
27 Jul 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
طوفان الأقصى وتجلّيات القرار المصيري: قراءة معرفية في لحظة الحسم الفلسطيني
06 Jul 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
بين لحظة الطوفان واستراتيجية المستقبل: نحو تفكير بعيد عن أسر اللحظة
05 Jul 2025