في السياسة لا تأتي القرارات الجذرية من فراغ، بل تنبثق غالبًا من هاجس وجودي أو من شعور عميق بانهيار ما كان ثابتًا ومسلّمًا به. حين قررت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب –كما كشفته وكالة رويترز– ربط تقديم مساعدات طارئة للولايات والمدن الأميركية، بقيمة 1.9 مليار دولار، بشرط التزام هذه الجهات بعدم مقاطعة الشركات الإسرائيلية؛ لم تكن تصدر عن فائض قوة أو طمأنينة، بل عن خوف حقيقي من انهيار السردية الصهيونية داخل العمق الأميركي.
هذا القرار، بقدر ما يبدو للوهلة الأولى قرارًا إداريًا داخليًا، إلا أنه في جوهره حدث سياسي‑أيديولوجي عابر للحدود. إنه إعلان رسمي بأن الرواية الفلسطينية اخترقت جدران المؤسسة الأميركية، وأن حركة المقاطعة (BDS) لم تعد قضية نخبوية معزولة في بعض الجامعات، بل باتت تهدد بنيانًا راسخًا من التحالفات والسياسات التي امتدت لعقود.
حين تُجبر المدن على الولاء فترى أن تُشترط المساعدات الفيدرالية –التي يفترض أن توزّع وفقًا للحاجة الإنسانية أو الكوارث الطبيعية– على موقف سياسي خارجي يتعلق بمقاطعة إسرائيل، فهذا تحوّل خطير. لا يعود المال العام أداة للعدالة الاجتماعية، بل يتحوّل إلى وسيلة ابتزاز أيديولوجي، يُفرض على الحكومات المحلية والبلديات مقابل “النجاة” من أزماتها الاقتصادية.
هذا النوع من الشروط يعيد تعريف “الولاء الوطني” في الولايات المتحدة: لم يعد مرتبطًا بالقيم الأميركية أو الدستور، بل بات مشروطًا بـالامتناع عن التعبير الحرّ، إذا كان هذا التعبير ينتقد إسرائيل.
انهيار الهيمنة الرمزية فمنذ عام 1967، كانت الرواية الصهيونية تحظى بهيمنة شبه مطلقة في الفضاء السياسي والإعلامي الأميركي. إسرائيل هي “الضحية الصغيرة”، “الواحة الديمقراطية”، و”الخط الأمامي في مواجهة الإرهاب”. لكن هذا البناء الرمزي بدأ بالتصدّع تدريجيًا منذ الانتفاضة الثانية، ثم تسارع بعد الحصار على غزة، وأخذ ينهار بالكامل مع الطوفان الفلسطيني الأخير الذي عرّى الرواية الصهيونية عالميًا.
داخل الجامعات الأميركية، في النقابات، وفي المجالس المحلية، لم يعد دعم إسرائيل مضمونًا. بل بات الفلسطينيون يظهرون كضحايا للتمييز العرقي، والاحتلال، والحصار، والإبادة. وهو ما كشفته استطلاعات Pew وGallup، حيث تراجع التأييد الشعبي لإسرائيل، لا سيما بين الشباب والديمقراطيين.
إن قرار ترامب ليس إلا رد فعل هستيري على هذا التحوّل البنيوي. فالسياسي حين يفقد قدرته على الإقناع، يلجأ إلى القمع. وما محاولة خنق حركة BDS من خلال حرمان الولايات من التمويل، إلا محاولة يائسة لوقف انهيار الهيمنة الصهيونية في المجتمع الأميركي.
ما يدركه النظام الصهيوني جيدًا، ويقلق منه أكثر من الصواريخ، هو أن يفقد “الحق الأخلاقي” في الدفاع عن نفسه. أن يتحوّل إلى الجلاد في عيون العالم، لا الضحية. وما يدركه أكثر، هو أن خسارة المعركة في أميركا ليست خسارة جزئية، بل تهديد استراتيجي شامل لمستقبله السياسي والدبلوماسي.
ولذلك، لم يكن أمام إدارة ترامب سوى استخدام ما تملك: المال الأميركي كعصا تأديب داخلي، لا لردع إيران أو الصين، بل لردع المدن الأميركية نفسها إن أبدت تعاطفًا مع فلسطين.
في الختام حين تنطق القرارات بالخوف نرى أن القرار الأميركي ليس دليلاً على قوة إسرائيل، بل دليل على ضعفها الرمزي وتهالك صورتها داخل الحليف الأهم. إنه مؤشر على أن الرواية الفلسطينية أصبحت واقعًا مؤثرًا في الرأي العام الأميركي، وأن القمع –حتى في مهد الديمقراطية– لن يُفلح في إيقاف هذا التغير العميق.
الذين يصيغون القرار اليوم يقاتلون ليس ضد حماس أو الجهاد والمقاومة ، بل ضد فكرة: أن تكون لفلسطين رواية تُسمع، تُصدَّق، وتُترجم إلى فعل سياسي.
وهذا بحد ذاته، هو نصر فلسطيني قادم من قلب المعركة الرمزية.














