بين التهور والتحرر دفاعٌ عن العقل الثوري في زمن الطوفان
26 Jun 2025

في لحظة تاريخية نادرة، شقّت المقاومة الفلسطينية الزمن بسكين الفعل، وأطلقت طوفان الأقصى، لا كعملية عسكرية وحسب، بل كصرخة وجودية في وجه عالم تشارك في تدجينه أنظمة ونخب ومؤسسات، بعضها يقف على الضفة يشمت، وبعضها يغلف هزيمته برداء “الواقعية السياسية”.


ومنذ لحظة الانفجار الأول، انقسم الناس إلى صفّين: صفّ يسير مع الدم، يرى في الطوفان كشفًا للعالم وسؤالًا عن معنى الكرامة، وآخر يرتجف من شدّة المعنى، فراح يتهم القيادة بالتهور، وكأنّه يطلب من المقهورين أن يحرروا أوطانهم بخطاب دبلوماسي بارد لا يُربك الاحتلال ولا يوقظه من غطرسته.


لكن دعونا نُفكّك هذه التهمة: ما هو التهور أصلًا؟ أهو المجازفة المحسوبة في لحظة انسداد الأفق، أم هو الرضوخ الهادئ لأوهام “إدارة الهزيمة”؟ من يرى في الطوفان تهورًا، يتناسى أن الثورات لا تُقاس بميزان الربح الآني، بل بحجم الكسر الذي تحدثه في هندسة العجز والخضوع. التهور الحقيقي ليس في تفجير السدود، بل في الوثوق بالاستعمار حين يبتسم، وبالخيانة حين تكتب بلغة السيادة.


لقد تحوّل بعض المثقفين إلى “خبراء خسائر”، لا لأنهم حريصون على الأرواح، بل لأنهم يفتقرون إلى الجرأة. ولأن الطوفان لم يطلب إذنهم، فقد أزعجهم، وأربك مقولاتهم، وفضح مقامرتهم الدائمة على استقرار الظلم. حين يتحدثون عن الأرقام، لا يبكون على الشهداء، بل يستثمرونهم ذريعة لإدانة الفعل، ووسيلة لتبرير عجزهم الطويل.


إنهم يُدينون الثورة لأنها “كلّفت كثيرًا”، لكنهم لا يُدينون الاحتلال لأنه قتل هذا الكثير. يخافون من المدى الذي ذهب إليه الفعل الفلسطيني، لأنه يشكّل مرآة تُظهر لهم أن كل سنوات الاعتدال كانت حديقة وهم، وأن الطوفان أخرج الناس من قفص اللغة إلى صلابة الدم.


القيادة التي فجّرت الطوفان لم تكن متهورة، بل قاربت العبث التاريخي بعقل استثنائي. لم تفجّر الصراع حبًا في النار، بل لأن جدران السجن باتت تختنق، ولأن الهدوء صار أداة قتل مؤجل. الرهان لم يكن على الانتصار السريع، بل على استعادة المعنى، على قلب الطاولة، على كسر المسار لا استكماله.


فمن أراد تقييم المقاومة، فليطرح سؤالًا بسيطًا: ماذا لو لم يقع الطوفان؟ الجواب واضح: كانت ستُستكمل مشاريع الأسرلة، كانت غزة ستُنهك أكثر، وكان التطبيع سيُكلّل بتل أبيب على العرش العربي، وكان الفلسطيني سيُدفن حيًا، في قبر سياسي اسمه “انتظار الفرَج”.


إن الطوفان لم يكن تهورًا، بل آخر ما تبقّى من حكمة في زمن الخنوع. ومن لم يفهمه، فمشكلته ليست في التحليل، بل في الجُبن.

المواضيع ذات الصلة
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
الخديعة الكبرى: كيف شرعنّت واشنطن ضم الضفة وخطّت تهجير فلسطين — ترامب مهندس المصيدة
02 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
المطلوب من قادة العرب في قمة الدوحة
13 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
الاغتيالات الإسرائيلية قوة متوهَّمة أم إقرار بالضعف البنيوي؟
10 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
مصر مركز الحسم في الصراع الإقليمي
07 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
منظمة شنغهاي والتداعيات المحتملة على واقع الحرب في غزة
02 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
من غيتو وارسو إلى غيتو رفح: مخطط الاحتلال لقتل وتهجير أهل غزة
24 Aug 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
جسراً للعبور لا سلماً للنزول
19 Aug 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
إسرائيل الكبرى": من الأساطير التوراتية إلى خرائط الهيمنة على الجغرافيا العربية
16 Aug 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الإقتصادي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي| المقال القانوني
بين برلين وغزة وفارق المساعدات الجوية
07 Aug 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
حين تُصبح المساعدات سلاحًا ضد الحقيقة قراءة في قرار ترامب وانهيار الرواية الصهيونية في الداخل الأميركي
05 Aug 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
الحربُ الخمسيَّة على غزة وتبادل الأدوار لمَ هذا والمستهدَفُ جائعٌ وأعزل؟!
03 Aug 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
قطاع غزة: بين ازمة المثقف الفلسطيني والعربي
31 Jul 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
ملاحظات حول مؤتمر نيويورك للاعتراف بالدولة الفلسطينية
31 Jul 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الإقتصادي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
‎الولايات المتحدة وتأجيج الصراعات الإثنية والقومية: تكتيك جيوسياسي لكبح الصين وتطويق الخصوم
27 Jul 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
طوفان الأقصى وتجلّيات القرار المصيري: قراءة معرفية في لحظة الحسم الفلسطيني
06 Jul 2025