مقدمة
حين تُصبح السلطة خصمًا، والنخبة عاطلة، والأحزاب هزيلة، والجماهير إمّا مقموعة أو مُنهَكة، يقف الحالمون بالتحرر أمام سؤال وجودي: ما العمل؟ هل نستسلم للواقع المختل، أم نخلق من رماد الانكسار بارقة انبعاث؟ هذا المقال محاولة لقراءة الواقع الفلسطيني – كساحة مركزية – في ظل التحولات العربية الأخيرة، وعلى ضوء زلزال السابع من أكتوبر، بما حمله من دروس وتحديات، وبما فجّره من أوهام سادت.
أولًا: من عطب السلطة إلى غياب القيادة*
النظام السياسي الفلسطيني يعيش أزمة بنيوية، لا أزمة ظرف. أزمة شرعية ووظيفة، لا فقط أزمة أداء. سلطة بلا سيادة، محصورة الدور في التنسيق الأمني وتسكين الغضب الشعبي، ونخب سياسية أُنهكت في صراعات داخلية أو في تقلبات التمويل، بينما بقيت القضية تُستنزف وتُختزل. هذا العطب ليس خاصًا بفلسطين؛ إنه وجه آخر لانهيار النظام الرسمي العربي، الذي حول الدولة إلى شركة أمنية، وأقصى كل منطق تحرري، وقمع كل طموح للتغيير.
ثانيًا: الشعب وحده في الميدان
ورغم كل ذلك، لم تتوقف التضحيات.*
الشعب الفلسطيني، وخاصة في غزة، دفع أثمانًا لا تُحتمل: من البيوت المهدمة، إلى المقابر الجماعية، إلى الحصار الخانق، إلى المجازر اليومية. لقد واجه الفلسطينيون العدو بقلب عارٍ، بإيمان لا تملكه جيوش، وصمود لا تعرفه حسابات الساسة.
هؤلاء الشهداء ليسوا مجرد أرقام في بيانات المنظمات، بل هم عنوان مشروعية القضية، وهم الدليل القاطع أن الشعب – رغم الخذلان – ما زال يؤمن، يقاوم، ويقدم دمه ليبقى المعنى حيًا.
ثالثًا: السابع من أكتوبر… ثورة على مؤامرة إقليمية كاملة*
قبل السابع من أكتوبر، كانت فلسطين تُدفن حيّة، بمباركة دولية وسكوت إقليمي. النظام العربي الرسمي كان قد قطع شوطًا متقدمًا في إعادة تأهيل “إسرائيل” ككيان طبيعي في المنطقة: تطبيع سياسي، اقتصادي، أمني، وثقافي، وصولًا إلى التبشير بـ”العدو البديل” – إيران لا الاحتلال – وإسكات كل من يرفع صوته باسم فلسطين.
لقد كان السابع من أكتوبر طوفانًا على هذه الهندسة. لحظة قال فيها الفلسطيني المحاصر كلمته: لن نُمحى. لن نصمت. لن نقبل أن يتحول جلادنا إلى جار حميم.
السابع من أكتوبر أعاد تعريف من هو العدو، ومن هو الحليف، ومن يستحق أن يمثل الأمة. لقد نسف فكرة “إدارة الصراع” وأعاد الاعتبار إلى “فعل التحرير”، وأسقط خطاب الاستسلام التطبيعي، وأربك سردية السلام الكاذب.
رابعًا: ما بعد الطوفان – لا عودة إلى الوراء*
المطلوب اليوم ليس انتظار صحوة السلطة، ولا رهانًا على إصلاح النخب، بل بناء مشروع جديد من خارج هذه البُنى المهترئة. مشروع:
• يتأسس على مركزية الشعب لا الوصاية عليه،
• يتحرر من التمويل المسموم،
• يعيد الاعتبار للمقاومة كخيار وجودي لا تكتيك سياسي،
• ويُعيد ربط فلسطين بسياقها العربي الثوري، لا بسياقات التسوية والمفاوضات العبثية.
*خامسًا: فلسطين مرآتنا… فمن ينظر؟*
فلسطين لم تكن يومًا “قضية خارجية” كما يُراد لها أن تبدو. هي مرآة لكل نظام، لكل مثقف، لكل حزب. ومن يقفز عنها، إنما يقفز عن شرفه الأخلاقي والسياسي. السابع من أكتوبر أعاد تعريف المعيار: أين تقف من فلسطين؟ ليس شعارًا، بل سؤالًا كاشفًا لكل مشروع.
خاتمة
في زمن تتقاطع فيه النكبات والخيانات، يُطلّ الشعب الفلسطيني من تحت الأنقاض ليعلّمنا من جديد أن الدم هو الذي يُعيد تصويب البوصلة.
لا ننتظر خلاصًا من النخب، ولا إذنًا من أنظمة. فلسطين لا تحتاج وصاية، بل تحتاج وفاءً حقيقيًا، ومشروعًا تحرريًا يُبنى على قدر التضحيات، لا على وهم المؤسسات الفارغة.
من لا يسمع صرخة الشهداء في السابع من أكتوبر، فقد أصمّ قلبه قبل أذنه. ومن لا يرى في التطبيع جريمة، فقد خان الموقع قبل أن يخون القضية














