على مدار أكثر من 77 عاماً تميز الكيان الصهيوني بالتفوق العسكري التكنولوجي، والذي انعكس بطبيعة إرهابية غير مسبوقة في التاريخ، بنزع الصفة الإنسانية عن شعب آخر واعتبار القضاء عليه وعلى أطفاله حقاً مشروعاً وضرورة وجودية لاستمرار مشروع الاحتلال. وعلى الرغم من هذا التفوق إلا أن العقلية الصهيونية لا تزال فاشلة في فهم ارتباط الشعب الفلسطيني بقضيته وأرضه وهويته، وهو الأمر الذي يجعل عقلية الاحتلال عاجزة أخلاقياً وعارية تماماً ليس فقط أمام العالم بل أمام مستوطنيها وأتباعها.
إن جوهر هذا الفشل الاسرائيلي مرتبط بشكل عميق بنوع الشخصية التي تنتجها فائض القوة إذا ما امتلكها السارق، بحيث تكون شخصية فوقية تعتقد بأن ما لا يمكن تحقيقه بالقوة سيتحقق بمزيد من القوة، مولدةً خليطاً عجيباً من الصلف والعنجهية لا يلبث أن يتحول إلى عامل أساسي في تقويض القوة ذاتها وفنائها. وعلى مدار التاريخ الإنساني الطويل، لدينا عشرات من الأمثلة التي غرست في عمق الوجدان الإنساني، حيث سقطت القوة فريسة للغرور والمكابرة.
ولعلّ أحد أكثر القصص المعبرة في هذا السياق هي قصة النبي داوود عليه السلام، وكيف استطاع بمقلاعه وحجره أن يهزم جالوت الذي مثّل قمّة الجبروت والغطرسة، لا يوجد شيء أكثر دقة من هذه القصة في وصف ما يجري من حملة إبادة تشنها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، جالوت الصهيوني متسلحاً بقوة فتّاكة، متغطرساً ومعتقداً أن قوته التي تسمح له بإبادة شعب دون أن يتحرك العالم، ستسمح له بأن يسلب هذا الشعب حقه في أرضه وهويته وطرده من التاريخ. فالصراع في هذا السياق ليس مادياً بحتاً، بل هو صراع بين الإسرائيلي السارق الإرهابي الطارئ، والفلسطيني صاحب الحق التاريخي الثابت على أرضه، ولن تتمكن قوة اسرائيل المادية ودعايتها الصهيونية من تغيير التاريخ، والنصر المطلق الذي ترفعه حكومة نتنياهو والمجتمع الصهيوني شعاراً ليس سوى سراب.
تمتلك إسرائيل أسلحة نووية، وطائرات إف-35، وتقنيات تجسس متطورة، ودعماً دبلوماسياً من الولايات المتحدة ومعظم الدول الأوروبية، واقتصاداً مندمجاً في بنية الهيمنة الرأسمالية، بالإضافة إلى آلة إعلامية غير مسبوقة وسيطرة شبه مطلقة على كبرى وكالات الإعلام الدولية. كل هذه العناصر، مجتمعة تحت مظلة للإيديولوجيا الأكثر شيطانية في تاريخ البشرية - الصهيونية - سمحت بإنشاء المستعمرة المثالية، واختلاق شعب مفترض، وبيعه للرأي العام على أنه شعب الله المختار، وفي الوقت نفسه محو الشعب الفلسطيني الأعزل من على الخريطة، والسيطرة على تاريخه وثقافته. في مواجهة هذا، يرد داوود الفلسطيني الأعزل بتمسك تام بقضيته وهويته العريقة، بذكاء شعبي وإرادة لا تتزعزع بالمقاومة.
منذ أكتوبر 2023، يشهد قطاع غزة، المحاصر جواً وبحراً وبراً منذ ما يقرب من عقدين، أعنف حملة إبادة منذ 1948، مخلفاً عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى وتدميراً شاملاً ووحشياً للقطاع. إلا أن ما كان يُفترض أن يكون نصراً سريعاً وساحقاً للكيان الصهيوني تحول إلى طريق مسدود سياسياً وعسكرياً وأخلاقياً.
وكما انتصر داود بالمقلاع، يرمي أبناؤه الفلسطينيون الدبابة الصهيونية بالحجارة، في ملحمة حقيقية تشهدها كل فلسطين يومياً. يا لغطرسة جالوت الصهيوني! سيكون من الرائع أن تدخل الأكاديمية الملكية الإسبانية كلمة "صهيوني" كمرادف للغرور والتكبر، إنها الحقيقة.
انتشرت صور المستشفيات المدمرة، والأطفال المشوهين، والصحفيين القتلى، والأحياء المدمرة حول العالم، وقوضت سردية "الدفاع عن النفس" التي حصّنت الكيان لعقود أمام الرأي العام الغربي. من الجامعات الأمريكية إلى البرلمانات الأوروبية، تعلو أصوات كانت صامتة سابقاً. عادت شرعية القضية الفلسطينية إلى السطح بقوة غير متوقعة، فارضةً المحور الأخلاقي للصراع. لم يعد داوود يرمي الحجارة فحسب: بل يُطلق اليوم حقائق تخترق دروع الاحتلال الإعلامية.
لم تعد صورة البطل مرتبطة بالجندي وبزيه العسكري وأوسمته. البطولة اليوم هي المسعف الفلسطيني الذي يدخل وسط القنابل لإنقاذ طفلة، إنها الأم الفلسطينية التي تسمو فوق الألم وتُواصل تربية أطفالها، إنه الشاب الفلسطيني الذي يُوثّق الجرائم، بكاميرته حتى لا ينساها العالم. إنه الدكتور حسام أبو صفية، الذي رفض الرضوخ للتهديدات واحتضن مرضاه ومستشفاه الذي قصفه الجيش الصهيوني.
غزة، رغم الدمار، لم تستسلم. مثل داوود، تُقاوم دون عنجهية، موقنةً بعدالة قضيتها. مثل داوود، لا يخشى حجم العدو، لأنه يدرك الضعف الكامن في القوة غير الشرعية.
لقد ضلّ الكيان الصهيوني، بهوسه بالنصر المطلق، طريقه. لقد أدت مجازره في غزة إلى تقويض كل مصداقيته المزعومة، وأثارت احتجاجات حول العالم، وتساؤلات غير مسبوقة داخل الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية وغيرها من الهيئات التي غضّت الطرف تاريخياً. رئيس الوزراء "الإسرائيلي" بنيامين نتنياهو ووزير حربه السابق يوآف غالانت مطلوبان من قبل المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب؛ بينما فرضت المملكة المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا وكندا والنرويج عقوبات على وزيرين صهيونيين، هما إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، بتهمة التحريض على العنف وانتهاكات حقوق الإنسان والتهجير القسري للفلسطينيين. بدأ الغول الصهيوني الضخم يتعثر، ليس فقط بسبب القوة الغاشمة، بل بسبب التآكل الأخلاقي، والعزلة الدولية المتزايدة، وانعدام الرؤية التي تعترف بالفظائع التي ارتكبها في احتلاله لفلسطين.
لم ينتصر داود بالذكاء فحسب، بل لأنه آمن بقضيته، اليوم، لا يزال الشعب الفلسطيني تجسيداً حياً لتلك الكرامة التي تأبى السحق. وبينما يشاهد العالم، يُعاد كتابة التاريخ: لم تعد قصة قهر، بل قصة كرامة وتحدي، وإنسانية تقاوم.
مع أن النصر الفلسطيني لا يزال غير مرئياً، إلا أن حقيقة واحدة لا يمكن إنكارها: لم يعد جالوت الصهيوني قوةّ لا تقهر. وداوود الفلسطيني رغم جراحه، لا يزال صامداً.














