في ظل مشهد دولي شديد التعقيد، تبرز الدبلوماسية الفلسطينية كواحدة من أهم أدوات الكفاح الفلسطيني من أجل التحرر والوصول إلى الاعتراف الدولي، إذ أنها تستخدم كمنبر لإيصالصوت الفلسطينيين إلى العالم، ولحشد الدعم في مواجهة احتلال مستمر منذ عقود، وتحديات داخلية على قدر كبير من التعقيد.
منذ تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، أدركت القيادة الفلسطينية أن المعركة لا تخاض فقط على الأرض، بل أيضا في أروقة المؤتمرات الدولية، وقاعات الاجتماعات الدبلوماسية، وميادين الرأي العام العالمي، فكان الانفتاح على دول عدم الانحياز، ثم التوجه إلى الأمم المتحدة التي منحتها في عام 1974 صفة مراقب، بمنزلة انتصار رمزي وسياسي في آن واحد.
ولم يكن طريق الدبلوماسية الفلسطينية معبدا، فبعد توقيع اتفاقيات أوسلو وتأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية، وجدت الدبلوماسية الفلسطينية نفسها محكومة بشروط الاتفاق، ومقيدة في تحركها، لكنها استمرت في السعي لانتزاع الاعتراف، حتى حققت في 2012 إنجازا بارزا بالحصول على صفة "دولة غير عضو" في الأمم المتحدة، وهذا الإنجاز في حينه فتح أمام فلسطين أبواب الانضمام إلى عشرات الاتفاقيات الدولية، ومنها محكمة الجنايات الدولية، ما عزز من قدرتها على استخدام القانون الدولي كسلاح في وجه الاحتلال.
ولكن وسط ذلك ظل سؤالا أساسيا مطروحا باستمرار، ألا وهو "هل أدى انضمام فلسطين لمحكمة الجنايات الدولية فعليا إلى محاسبة الاحتلال على جرائمه؟”. فالواقع يشير إلى أن هذه الخطوة، رغم رمزيتها المهمة، إلا أنها لم تحقق بعد التأثير المرجو، فمنذ انضمام فلسطين رسميا للمحكمة الجنائية الدولية في 2015، ورغم تقديم ملفات متعددة تتعلق بالاستيطان، والعدوان على غزة، وجرائم ضد الإنسانية، لم تُفضِ الإجراءات القضائية إلى نتائج ملموسة، ولم تُحاسب أي شخصية إسرائيلية أمام المحكمة حتى الآن.
وتعود هذه الفجوة بين الانضمام والتفعيل إلى عدة عوامل متشابكة، أبرزها:
• الضغوط السياسية الهائلة التي تمارسها قوى كبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، على المحكمة لمنعها من الانخراط في تحقيقات تمس إسرائيل.
• البيروقراطية القضائية البطيئة في المحكمة، وطول إجراءات جمع الأدلة، والتحقيقات الأولية، ومرحلة الفحص التمهيدي، والتي غالبا ما تُستخدم كأدوات لتأجيل البت في الملفات السياسية الحساسة.
• ضعف المتابعة السياسية والقانونية من الجانب الفلسطيني، نتيجة انقسام المؤسسات، وتنازع الأولويات، ومحدودية الكوادر المتخصصة القادرة على متابعة الملفات الدولية المعقدة.
• الطابع الطوعي لتنفيذ أوامر المحكمة، حيث أن المحكمة لا تمتلك سلطة تنفيذية على الدول غير الموقعة، ومن بينها إسرائيل، مما يقيد من فاعلية أي قرارات قد تصدر مستقبلا.
في ضوء هذه المعطيات، يمكن القول إن انضمام فلسطين إلى المحكمة شكّل تحولًا مهمًا في أدوات الدبلوماسية القانونية، لكنه لا يزال في إطار الرمز السياسي أكثر من كونه وسيلة فعالة للمحاسبة، غير أن استمرار التوثيق القانوني، والتنسيق مع منظمات حقوق الإنسان، ومراكمة الأدلة، قد تؤسس في المستقبل لمساءلة حقيقية، خاصة في حال تغير البيئة السياسية الدولية.
أما في نطاق العمل الدبلوماسي الأوسع، فقد نشطت الدبلوماسية الفلسطينية في بناء تحالفات سياسية مع دول الجنوب، وعلاقات خاصة مع أمريكا اللاتينية والدول الأوروبية المتعاطفة، كما راهنت على الدبلوماسية الشعبية والإعلامية، من خلال حملات المقاطعة (BDS)، والتفاعل مع حركات التضامن العالمية، واستخدام الإعلام كمنصة لعرض المظلومية الفلسطينية.
وعلى الرغم من النجاحات التي تحققت، لم تخلُ هذه المسيرة من عقبات، فالانقسام الفلسطيني الداخلي مثّل ضربة قاسية للموقف التفاوضي الفلسطيني، وقلل من مصداقية تمثيل الفلسطينيين في المحافل الدولية، في المقابل، استثمرت إسرائيل هذا الانقسام، مدعومة بتحالف استراتيجي مع الولايات المتحدة، لتقويض الجهود الفلسطينية عبر الضغط السياسي والمالي.
وتضاف إلى ذلك العقبة الأزلية المتمثلة في ضعف الإمكانات، فالقيادة الفلسطينية تدير دبلوماسية تحتاج إلى موارد، في ظل ظروف اقتصادية صعبة، وبنية مؤسساتية غير مستقرة، وقدرة إعلامية محدودة مقارنة بما تمتلكه إسرائيل من أدوات ضغط ونفوذ عالمي.
مع ذلك، تبقى حصيلة العقود الماضية إيجابية من حيث التراكم السياسي والرمزي، فاليوم تعترف أكثر من 140 دولة بدولة فلسطين، وتم تبني عشرات القرارات الدولية المؤيدة للحقوق الفلسطينية، ولكن هذا الاعتراف وحده لا يكفي، إذ يتطلب الطريق نحو تحقيق الدولة الفلسطينية المستقلة استراتيجية دبلوماسية موحدة، تُبنى على المصالحة الوطنية، والاستثمار في الكوادر الدبلوماسية، والتوسع في العمل القانوني، والتواصل مع المجتمعات المدنية عالميا.
إن معركة الدبلوماسية الفلسطينية مستمرة، وهي أكثر من مجرد تمثيل خارجي إذ إنها معركة سردية، وقانون، ووجود، وكل تقدم فيها هو خطوة على طريق طويل نحو الحرية.
ورغم مرور أكثر من 9 سنوات على انضمام فلسطين للمحكمة، لم تُحاسب أي شخصية إسرائيلية محاسبة فعلية، رغم إصدار المحكمة الجنائية الدولية في 2024 أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعه، وهو ما يُعد إنجازا قانونيا غير مسبوق، غير أن هذه الأوامر لا تزال تواجه عوائق التنفيذ، في ظل امتناع إسرائيل عن التعاون، وضعف إرادة بعض الدول لتنفيذ الاعتقال، مما يجعل المحاسبة الكاملة هدفًا لم يتحقق بعد.
في ضوء التحديات الراهنة والفرص التي تتيحها المتغيرات الدولية، تبرز الحاجة الملحة إلى تطوير استراتيجية دبلوماسية فلسطينية شاملة، تستند إلى أدوات القانون الدولي، والدبلوماسية الشعبية، والتحالفات المتعددة الأطراف، ويُوصى بالتركيز على استثمار الزخمالناجم عن أوامر الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق قادة إسرائيليين، عبر إطلاق حملة دبلوماسية منسقة تهدف إلى:
• حشد دعم الدول الأطراف في نظام روما الأساسي لتطبيق أوامر الاعتقال.
• زيادة التنسيق مع المنظمات الحقوقية الدولية لمواصلة توثيق الجرائم الإسرائيلية وتقديمها للمحكمة.
• تعزيز الضغط الشعبي والنيابي في الدول الغربية من أجل الالتزام بتطبيق القانون الدولي.
• العمل على سد الفجوة بين الانضمام الرمزي للمحكمة وتفعيل أدواتها الفعلية، بما يحقق الردع والمحاسبة.
وأخيرا تجدر الإشارة إلى إن المسار القانوني، رغم تعقيداته، يجب أن يظل ركيزة في السياسة الفلسطينية الخارجية، بالتوازي مع العمل السياسي والإعلامي والحقوقي، لضمان أن لا تبقى الجرائم الإسرائيلية بلا عقاب، وأن يشعر الشعب الفلسطيني بجدوى خياره في النضال القانوني والدبلوماسي.














