الخيانة السياسية في السياق الفلسطيني من حسم الانتفاضة إلى ميوعة النخبة في زمن الطوفان.
23 May 2025

مقال نقدي أكاديمي في انكشاف المفهوم بين الثابت الثوري والانحراف المؤسساتي

"أخشى ما أخشاه أن تصبح الخيانة وجهة نظر." — غسان كنفاني

هذه المقولة لم تعد مجرد تحذير أدبي، بل أضحت تشخيصًا معرفيًا دقيقًا لحالة سياسية فلسطينية، تحوّلت فيها الخيانة من فعل شاذّ إلى خطاب مألوف، ومن طعن في الخاصرة إلى تسوية على الطاولة.

الملخص

يشكّل هذا المقال قراءة ثورية نقدية لمفهوم الخيانة السياسية في السياق الفلسطيني، انطلاقًا من ثنائية الحسم الشعبي خلال انتفاضة 1987، مقابل التسييل السياسي والأكاديمي الذي تجلّى خلال حرب الإبادة 2023–2024، في ظلّ ما اصطلح عليه بـ "طوفان الأقصى "فيسائل المقال التحوّلات في دلالات المفهوم، وبُناه المعرفية، وتموضعات النخبة، ويقترح إطارًا تحليليًا لفهم الخيانة لا كموقف فردي، بل كبنية أيديولوجية تتكئ عليها سلطة مهزومة لتطبيع التواطؤ, كما يكشف كيف أعادت المقاومة المسلّحة ترتيب المعايير الأخلاقية والسياسية، ففضحت تماهي النخبة، وأعادت تعريف الخندق الوطني.

1. المقدمة في ضرورة مساءلة المفهوم

الخيانة ليست مصطلحًا أخلاقيًا صرفًا، بل مفهوم سياسي بامتياز، مرتبط بطبيعة السلطة وتحديد العدو وتموضع الذات الجمعية في سياق الصراع. في الحالة الفلسطينية، وُلد المفهوم من رحم التحرر، لا من رحم الدولة، ما جعل الشعب لا النخبة هو المرجع في ضبطه.

 غير أن هذه المركزية الشعبية للمفهوم تآكلت بفعل دخول المؤسسة السياسية مرحلة "أوسلو"، حيث انفصلت مفردات الخطاب عن الميدان، وتم تطبيع التعاون مع العدو ضمن منظومات "الشرعية الدولية"، و"الحوكمة الرشيدة"، و"التنسيق الأمني".

لكن لحظة "طوفان الأقصى" أعادت قلب المعادلة فقد ارتفعت كلفة الصمت، وسقطت أقنعة الواقعية السياسية، وانكشفت النخبة التي احترفت تأجيل الحسم بحجة التعقيد ولقد كشفت المقاومة أن التعقيد نفسه قد يكون آلية خيانة.

2. انتفاضة 1987 حين كان الشعب هو الحَكَم

في مشهد الانتفاضة الأولى، كان الشعب الفلسطيني هو المرجعية العليا في تحديد "الخائن" فلم لم يكن هناك دولة تحت الاحتلال، بل شعب محتلّ وكانت المقاومة فعلًا جماهيريًا لا احتكارًا نخبويًا وكان الموقف من العدو واضحًا لا غبش فيه: "العميل" يُعزل، ويُدان، ويُقاوَم.

كانت البنية الأخلاقية والسياسية متناغمة مع سياقها الكولونيالي، ما منح المفهوم حدّته، ورسّخ التصنيف الجماهيري حسب تعريف يزيد صايغ (1997)، فإن حركات المقاومة كانت تمارس ما يُعرف بـ"العدالة الثورية" داخل المجتمع، لا كقمع، بل كاستعادة للسيادة الرمزية المسلوبة.

3. أوسلو المؤسسة تفرغ المفهوم من محتواه

مع توقيع اتفاق أوسلو وتأسيس السلطة الفلسطينية، حدث انقلاب حاد على المفهوم فأُدرج التعاون مع الاحتلال ضمن "بروتوكولات أمنية" مؤسسية (Tartir, 2015) وقد غاب الحسم الشعبي لصالح تأويل بيروقراطي يُدير "الانقسام" بدل التعامل مع "الخيانة" وتحوّلت منظومة الموالاة من معيار التحرر إلى معيار الانتماء للسلطة.

صارت الخيانة وجهة نظر، كما حذر كنفاني. فلم يعد بالإمكان توصيف مَن يخدم الاحتلال، لأن السلطة نفسها تعاقدت معه، والنخبة برّرت، والتمويل الدولي موّل.

هنا حصل ما يُسمى بـ"مأسسة التواطؤ"، حيث تم ابتلاع المفهوم داخل ماكينة الدولة، وتحويله إلى ورقة ضغط لا إلى موقف أخلاقي.

4. لحظة الطوفان عندما استعادت المقاومة تعريف الخندق

في 7 أكتوبر 2023، ضربت المقاومة الفلسطينية قلب المنظومة الاحتلالية والسياسية العالمية، معلنةً أن الفعل الميداني هو من يُعرّف السياسة لا العكس.

كان "طوفان الأقصى" بمثابة امتحان أخلاقي للكلّ:

       •      هل أنت مع المقاومة أو مع إدارتها؟

       •      هل "الصمت" موقف أم تواطؤ؟

لم يكن هذا طوفانًا عسكريًا فقط، بل مفهوميًا أيضًا فقد اجتثّ الاستعارات النخبوية التي حيّدت المفاهيم الكبرى، وعلى رأسها "الخيانة". أصبح ممكنًا تسمية الأشياء بأسمائها دون وساطة أكاديمية

"الخيانة هي الصمت عند الإبادة، وهي الحياد عند المجزرة، وهي إدانة الفعل المقاوم لأن توقيته غير ملائم دوليًا."

لقد استردّ المفهوم جذريته، لا لأن المقاومة قالت ذلك، بل لأن دم الشهداء هو من حسم الجدل.

5. النخبة الأكاديمية والسياسية من التأطير إلى التواطؤ

أظهرت الحرب الأخيرة على غزة أن كثيرًا من النخبة الفلسطينية لم تكن عاجزة عن تسمية الخيانة، بل متواطئة في إعادة تعريفها، فبعض الأكاديميين قدّم تبريرات فقهية للتهدئة السياسية، بدل تفكيكها (Ziadah, 2022) وتم تأويل "الحياد" بوصفه "تعقّلًا" لا تفريطًا وخُوّنت المقاومة في الخطاب الأكاديمي الضمني عبر مفاهيم مثل "الانتحار الجماعي"، و"المغامرة غير المحسوبة"، و"اللعب بالنار".

هذه اللغة كانت إعادة إنتاج ناعمة للمنطق الاستعماري، لكنها تلبس عباءة "العقلانية".

وهنا تتجلى الخيانة بأخطر صورها حين يُستدعى العقل لتبرير الاستسلام، ويُنتج المفكر مشهدًا لغويًا يخدم القاتل.

6. نحو تفكيك المفهوم مقاومة الخيانة كممارسة بنيوية

إن الخيانة ليست فعلاً فرديًا، بل بُنيةٌ تتمثل في:

       •      انفصال الموقع السياسي عن الخندق الوطني

       •      تقديم "النجاة الذاتية" على حساب المصير الجمعي

       •      إعادة تأويل العدو بوصفه شريكًا محتملاً

تحتاج المقاومة اليوم إلى استعادة المفهوم وتثبيته، لا بوصفه أداة للتخوين العشوائي، بل كمصفاة معرفية تحدد اصطفاف النخبة، وجدوى السياسة، ومكانة الكفاح.

7. خاتمة: نحو استعادة المفهوم من قبضة الدولة والنخبة

إن لحظة الطوفان، بما كشفت من مواقف، ليست فقط نقطة اشتباك، بل فرصة لإعادة تعريف المفاهيم التي نُزعت من جذريتها بفعل مشروع الدولة والتسوية.

إن قول كنفاني: "أخشى ما أخشاه أن تصبح الخيانة وجهة نظر"، صار تشخيصًا لحالٍ ساد، لا خوفًا من حالٍ قادم.

ولذلك، فإن إعادة تعريف الخيانة لا تتم عبر الكتابة فقط، بل عبر الممارسة، والمساءلة، ورفض ميوعة المفاهيم التي تغلف التواطؤ بلغة الاحتراف والواقعية.

المراجع:

1)    Kanafani, G. (n.d.). Selected Works. [مقولة منسوبة ومتداولة على نطاق واسع].

2)    Sayigh, Y. (1997). Armed Struggle and the Search for State: The Palestinian National Movement, 1949–1993. Oxford University Press.

3)    Tartir, A. (2015). The evolution and reform of Palestinian security forces 1993–2013: Transforming the PNA security sector. Geneva Centre for the Democratic Control of Armed Forces.

4)    Ziadah, R. (2022). Logics of the Palestinian Authority: Governmentality, Sovereignty, and the Production of Space. Middle East Critique, 31(2), 133–148.


المواضيع ذات الصلة
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
مفهوم المقاومة الفلسطينية وطوفانها
07 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
طوفان الأقصى عامان من الوعي المقاوم إلى ميلاد مرحلة جديدة للحقوق الفلسطينية
07 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
الخديعة الكبرى: كيف شرعنّت واشنطن ضم الضفة وخطّت تهجير فلسطين — ترامب مهندس المصيدة
02 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
المبادرة الأمريكية: غطاء للانتصار الرمزي للاحتلال أم اختبار للقوة الفلسطينية؟
02 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
‎استراتيجية الاحتلال الثابتة ضد الاعترافات بالدولة الفلسطينية
22 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
المطلوب من قادة العرب في قمة الدوحة
13 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
خدعة “المجانية” وواجب الانتصار الفلسطيني
12 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
ماذا ينتظر الخليج بعد الفخاخ الأربعة؟
12 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
الاغتيالات الإسرائيلية قوة متوهَّمة أم إقرار بالضعف البنيوي؟
10 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
من الأونروا إلى إمارة الخليل: استراتيجيات تفكيكالمرجعية الفلسطينية واستشراف مآلاتهام
07 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
مصر مركز الحسم في الصراع الإقليمي
07 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
تركيا بين التدخل الإقليمي ومسؤولياتها التاريخية تجاه فلسطين
05 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
منظمة شنغهاي والتداعيات المحتملة على واقع الحرب في غزة
02 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
اللاءات الأمريكية وثروة غزة، الجيوسياسة والبديل الطاقوي
30 Aug 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
غزة وتآكل القوة الناعمة الأمريكية عالمياً
28 Aug 2025