الطوفان كاشفًا لأزمة المشروع الإسلامي المعاصر
18 May 2025

مقدمة

مثّلت عملية “طوفان الأقصى” لحظة فارقة في تاريخ النضال الفلسطيني والعربي، ليس فقط على المستوى العسكري والسياسي، بل على مستوى إعادة تعريف المفاهيم والمشاريع الفكرية الكبرى. هذه اللحظة، بما حملته من صدمة ووضوح، لم تُسقط أقنعة المنظومة الاستعمارية وحدها، بل كشفت أيضًا عجز التيارات الإسلامية الإحيائية عن تقديم أفق ثوري عملي في لحظة الانفجار التاريخي.

في هذا المقال، نفكك الأزمة البنيوية التي تعيشها الحركات الإسلامية الإحيائية، بدءًا من الجذر المؤسس لها ممثلاً في فكر حسن البنا، مرورًا بتحول الشيخ أحمد ياسين إلى نموذج مقاوم تحرري، ثم تحليلاً مستقلاً لدور إسماعيل هنية في إدارة التوازن بين المقاومة والمؤسسة، وصولًا إلى المشروع السيادي الذي يمثّله السيد حسن نصر الله، ثم الفكر المقاوم المركّب الذي يجسده يحيى السنوار، لنخلص إلى ضرورة الانتقال نحو “الإسلام التحرري” بوصفه الإطار الأكثر جاهزية لمواجهة شروط الصراع المركّبة اليوم.

أولًا: من الإحياء إلى التكرار — أزمة الخطاب الإحيائي

التيار الإحيائي نشأ في القرن العشرين كردّ فعل على الانهيار السياسي للحضارة الإسلامية، وركّز على استعادة الهوية عبر أدوات الدعوة، التربية، والعمل الخيري والاجتماعي. وقد مثلت جماعة الإخوان المسلمين هذا التوجه بوضوح، منذ تأسيسها على يد حسن البنا عام 1928.

وقد حمل البنا نوى تحررية بارزة في مشروعه:

        •       رفض الاستعمار البريطاني، وأيّد الكفاح المسلح في فلسطين.

        •       دعا إلى استقلال ثقافي وفكري عن الغرب.

        •       طرح مشروع “الإسلام الشامل” لإصلاح الفرد والمجتمع والدولة.

لكن هذه النوى التحررية ظلت مكبّلة بمنهج إصلاحي تدريجي، لا ثوري راديكالي، ما جعل مشروعه – برغم قوته التأسيسية – غير قادر على تقديم نموذج اشتباك شامل مع البنى الإمبريالية والاستبدادية ولقد بقي الخطاب حبيس الدعوة والتنظيم، لا منطلقًا نحو بناء أدوات السيادة والتحرر السياسي والاقتصادي الحقيقي.

ثانيًا: الشهيد الشيخ أحمد ياسين — من الدعوة إلى المقاومة

شكل الشيخ أحمد ياسين نموذجًا بارزًا في مسار تطور الفكر الإسلامي من خطاب إحيائي قائم على الدعوة والإصلاح إلى خطاب تحرري قائم على المقاومة الفعلية  فقد أدرك ياسين، مبكرًا، أن الاحتلال الصهيوني لا يمثل مجرد مشكلة سياسية أو احتلالًا عسكريًا عاديًا، بل استعمارًا إحلاليًا يهدد الوجود، ولا يمكن مواجهته إلا بمقاومة شاملة تتجاوز الخطاب الدعوي التقليدي.

أسس الشيخ ياسين حركة حماس لتكون مشروعًا مقاومًا وجماهيريًا، يجمع بين الإسلام كشريعة وأيديولوجيا وبين الاشتباك الميداني ضد الاحتلال ولم يكتف بذلك، بل أسس بنية شعبية واسعة تتصل بحاجات الجماهير، محولًا الإسلام من خطاب أخلاقي أو توعوي إلى فعل سياسي وعسكري ميداني  بهذا، نجح في تجاوز الطابع الدعوي والتنظيمي الضيق، مؤسسًا مشروعًا مقاومًا متكاملاً قادرًا على الصمود في ظل الحصار والضغوط.

إن تجربة الشيخ ياسين تمثل تحوّلًا نوعيًا في الفكر الإسلامي؛ إذ انتقل من خطاب الإصلاح التدريجي إلى فقه الاشتباك والتحرر، مؤكدًا أن الفعل الثوري يأتي أحيانًا قبل النظريات، وأن الدين يمكن أن يكون أداة للتحريض والتحرير الفعلي لا مجرد وعظ أو تنشئة اجتماعية وقاد مقاومة تحت الحصار، وبنى بنى تحت الأرض، وجعل من الإسلام خطاب تحريض لا تسكين، وفعلًا تحرريًا لا دعويًا فحسب فإذا كان حسن البنا أسّس الصحوة، فإن ياسين أسّس الاشتباك.

ثالثًا: الشهيد إسماعيل هنية — قيادة السياسة بين المقاومة والمؤسسة

مثل إسماعيل هنية نموذجًا مركزيًا في فهم التحولات السياسية والفكرية داخل الحركات الإسلامية المعاصرة، لا سيما حركة حماس التي قادها في مراحل مفصلية من تاريخ المقاومة الفلسطينية. اتسمت قيادة هنية بمحورية مزدوجة تجمع بين إدارة المؤسسة السياسية تحت ظروف الاحتلال والحصار، وبين الحفاظ على فاعلية المقاومة كخيار استراتيجي.

سياسيًا، نجح هنية في تحقيق توازن دقيق بين المفاوضة مع الفاعلين الإقليميين والدوليين من جهة، وضرورة استمرار الاشتباك العسكري والمقاومة الشعبية من جهة أخرى هذا التوازن كان بمثابة محاولة لتكييف المشروع الإسلامي المقاوم ضمن واقع معقد متعدد الأبعاد، حيث لم يكن خيار المقاومة فقط هو الحاكم، ولا السياسة التوافقية فقط، بل مزيج يهدف إلى الحفاظ على وحدة المشروع وأدواته.

فكريًا، حمل الشهيد هنية رؤية تحاول تجاوز الخطابات الإحيائية التقليدية، عبر التركيز على بناء المؤسسات وتوسيع شبكة الشرعية الشعبية، مع إعادة صياغة مفهوم المقاومة بحيث يشمل الأبعاد السياسية والاجتماعية إلى جانب العسكري  وقد رأى أن المقاومة ليست مجرد فعل مسلح، بل مشروع متكامل يحتاج إلى إدارة مؤسسية فعالة تعزز صمود الشعب وتوفر الخدمات والحقوق الأساسية.

مؤسسيًا، عمل هنية على تعزيز هيكلة حركة حماس ككيان سياسي ومقاوم قادر على التكيف مع المتغيرات، سواء داخل قطاع غزة أو في الساحة الفلسطينية الأوسع وقد تجلى ذلك في محاولاته المستمرة لإرساء مؤسسات حقيقية للحكم والمقاومة في بيئة محاصرة، مع التركيز على تعزيز شرعية الحركة داخليًا وخارجيًا، وهو ما يضعه في موقع قائد سياسي محنك يوازن بين المشروع التحرري والواقع السياسي المعقّد.

رابعًا: الشهيد حسن نصر الله — الإسلام السيادي في أعلى تجلياته الواقعية

جسّد السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، مثالًا متقدمًا لفكر “الإسلام التحرري السيادي” الذي يتجاوز الخطاب الدعوي إلى بناء مؤسسة مقاومة متعددة الأبعاد فقد عمل نصر الله على تحويل المقاومة إلى مشروع متكامل يشمل الجوانب العسكرية والإعلامية والتربوية والتنموية، مدركًا أن السيادة لا تُستجدى، بل تُنتزع بالقوة والتنظيم والوعي.

في خطاب نصر الله، تصبح المقاومة مسألة فقهية ووطنية وعالمية، حيث تُطرح السيادة والكرامة في مواجهة الكيان الإسرائيلي كقضايا مركزية لا يمكن التنازل عنها ويعبّر فعل حزب الله عن ترجمة فعلية لهذا الخطاب، إذ نجح في بناء ميزان ردع حقيقي يغير المعادلات الأمنية والسياسية في المنطقة ففي خطابه، تصبح المقاومة فقهًا، وتكليفًا، وأفقًا وطنيًا وقوميًا، بل وعالميًا.

إن نموذج نصر الله يوضح كيف يمكن للإسلام التحرري أن يتحول إلى مشروع سيادي يفرض شروطه على الواقع، ولا يكتفي بالدعوة أو المقاومة الرمزية، بل ينشئ مؤسسات قادرة على إدارة الصراع وتحقيق مكتسبات سياسية وعسكرية.

خامسًا: يحيى السنوار — الإسلام التحرري بين السجن والميدان والدولة المحاصرة

مثّل يحيى السنوار، القائد العام لحركة حماس، نموذجًا مركبًا ومعقدًا للفكر الإسلامي التحرري، يتبلور في سياق استثنائي جمع بين الأسر والسجن، والميدان العسكري، وتجربة إدارة السلطة ضمن ظروف الحصار والضغط المستمر فقد صاغ مشروعه الفكري والسياسي داخل الزنازين، حيث تعمّق في القراءة والتأمل، ما أتاح له دمج الفكر المقاوم بالدولة، ليس بوصفها سلطة سلطوية، بل كأداة سيادة وكرامة للشعب الفلسطيني تمثّل في قيادته خلال السنوات الأخيرة، وبلغ ذروته في التخطيط لعملية “طوفان الأقصى” فقد دمج المقاومة بالدولة، لا بوصفها سلطة فوق الناس، بل كأداة سيادة لهم وأعاد بناء دور “القائد–المجاهد–المُفاوض” ضمن توازنات دقيقة، تربط بين البندقية والسياسة.

على عكس النماذج السابقة، جعل السنوار من المقاومة جزءًا لا يتجزأ من إدارة الحكم، مع الحفاظ على توازن دقيق بين البندقية والسياسة، والمقاومة والشرعية الشعبية ويبرز توجهه نحو انتخابات شاملة كدليل على تحوله من مفهوم التنظيم المغلق إلى الإسلام الشعبي المقاوم الذي يستمد شرعيته من الشعب لا من المؤسسة التنظيمية وقد جسّد السنوار التحول من المقاومة الرمزية إلى الردع العملي، ومن التنظيم إلى الجبهة، ومن القائد الفرد إلى الإرادة الجماعية.

بهذا، يمثل السنوار قفزة نوعية في الفكر الإسلامي التحرري، حيث يتجاوز الخطاب المقاوم إلى بناء مشروع سيادي قائم على اشتباك متوازن مع الواقع السياسي والظروف الصعبة، مجسّدًا نموذجًا حديثًا في العلاقة بين المقاومة، الدولة، والقيادة الجماعية.

سادسًا: الطوفان ككاشف — المقاومة تسبق النظرية

مثّلت عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر 2023 حدثًا غير مسبوق في تاريخ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، إذ شكّلت صدمة معرفية وسياسية على مستوى المنطقة والعالم العربي والإسلامي. فقد سبقت هذه العملية الفعل الثوري الأدبيات والنظريات السائدة، وأجبرت جميع الفاعلين على إعادة تقييم مواقفهم ومراجعة تصوراتهم.

في هذا السياق، بدا واضحًا أن الحركات الإسلامية الإحيائية، التي انخرطت في خطاب الإصلاح والتنظيم، تفاجأت بحجم التحول الذي ساهمت في تأجيله أو تحييده عبر منهجياتها التدريجية والمحافظ فقد كشف “الطوفان” عن محدودية تلك الخطابات في استيعاب شروط الفعل الثوري والمقاومة الشاملة، وأظهر ضرورة وجود خطاب إسلامي قادر على التجاوب مع متطلبات الاشتباك المباشر مع القوى الاستعمارية.

إعادة ترتيب المعادلة التي فرضها هذا الحدث تؤكد أن من لم يكن جزءًا من الفعل التحرري الشامل، صار جزءًا من السردية الراكدة والعاجزة عن التأثير، ومن لم يطور لغته وموقعه فقد شرعية تمثيل الجماهير أو المشاركة الفاعلة في صناعة المستقبل.

سابعًا: الإسلام التحرري — من الإصلاح إلى السيادة

في ضوء الفشل النسبي للمشروع الإحيائي في مواجهة التحديات الراهنة، تظهر الحاجة الملحة إلى بناء إطار مفاهيمي جديد يُطلق عليه “الإسلام التحرري”. هذا الإطار يسعى إلى تجاوز حدود الإصلاح التدريجي، وينطلق من تصور سيادي شامل يُعنى بتحرير الأمة من التبعية السياسية والاقتصادية، وليس فقط من الذنوب الفردية أو الانحرافات الأخلاقية.

يتميز الإسلام التحرري بعدة سمات مركزية:

        •       تحرر من التبعية السياسية والاقتصادية إلى جانب التحرر الأخلاقي والثقافي.

        •       تحويل العقيدة إلى أداة مقاومة وفعل سيادي متكامل.

        •       إنتاج أدوات قوة تشمل الأبعاد العسكرية، الاقتصادية، الإعلامية، والتربوية.

        •       الاشتباك الجاد مع البنية الكولونيالية والإمبريالية، وليس الاقتصار على نقد المجتمع المحلي أو الخطاب الديني فقط.

ثامنًا: شروط العبور إلى الإسلام التحرري

لتحقيق التحول الضروري من المشروع الإحيائي إلى الإسلام التحرري، لا بد من مراجعة جذرية تضمن:

        1.     نقد التنظيم المغلق والتراتبية الدعوية لصالح الانفتاح الشبكي الشعبي.

        2.     الانتقال من مفهوم الفرد–المؤمن إلى الشعب–المقاتل.

        3.     التحول من الخطابة إلى بناء أدوات السيادة العملية.

        4.     تحرير الفقه من وظائفه السلطوية والتقليدية، وتوجيهه نحو العدالة والتحرر المجتمعي.

 

خاتمة

ما بعد “الطوفان” ليس كما قبله اللحظة التاريخية لا تنتظر تنظيرات باردة أو مواقف مترددة لقد وضعت المقاومة الجميع أمام سؤال حاسم: هل أنتم مشروع تحرر حقيقي، أم مجرد إعادة تدوير لخطاب الإصلاح القديم؟

لقد حمل حسن البنا بذورًا تحررية لكنها لم تثمر ثورة  أما أحمد ياسين فقد جسّد الانتقال إلى المقاومة العملية  وجاء حسن نصر الله ليؤسس للسيادة الإسلامية بميزان قوة متكامل وأثبت يحيى السنوار أن القيادة تُولد من الميدان، من الزنزانة، ومن دم الشهداء بينما مثل إسماعيل هنية نموذج القيادة التي تجمع بين إدارة المؤسسة السياسية والمقاومة في ظل ظروف استثنائية.

لقد أتمّت الإحيائية دورتها التاريخية، والإسلام اليوم بحاجة إلى فكر سيادي مقاوم، لا وعظ أخلاقي إلى بناء الدولة والردع، لا إلى إدارة الجمعيات إلى وعي يُحرّر ولا يُطمئن، ويُقاتل ولا يُراوغ فالذين لا يواكبون لحظة التحرر لن يكون لهم مكان في بنائها القادم.



المواضيع ذات الصلة
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
مفهوم المقاومة الفلسطينية وطوفانها
07 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
طوفان الأقصى عامان من الوعي المقاوم إلى ميلاد مرحلة جديدة للحقوق الفلسطينية
07 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
الخديعة الكبرى: كيف شرعنّت واشنطن ضم الضفة وخطّت تهجير فلسطين — ترامب مهندس المصيدة
02 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
المبادرة الأمريكية: غطاء للانتصار الرمزي للاحتلال أم اختبار للقوة الفلسطينية؟
02 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال الثقافي والاعلامي
أي مستقبل لغزة في ظل مجلس ترامب للسلام؟
30 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال الثقافي والاعلامي
الاعترافات بفلسطين تتطلب إصلاحات شاملة
24 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
‎استراتيجية الاحتلال الثابتة ضد الاعترافات بالدولة الفلسطينية
22 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
المطلوب من قادة العرب في قمة الدوحة
13 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
خدعة “المجانية” وواجب الانتصار الفلسطيني
12 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
ماذا ينتظر الخليج بعد الفخاخ الأربعة؟
12 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
الاغتيالات الإسرائيلية قوة متوهَّمة أم إقرار بالضعف البنيوي؟
10 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
من الأونروا إلى إمارة الخليل: استراتيجيات تفكيكالمرجعية الفلسطينية واستشراف مآلاتهام
07 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
مصر مركز الحسم في الصراع الإقليمي
07 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
تركيا بين التدخل الإقليمي ومسؤولياتها التاريخية تجاه فلسطين
05 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال الثقافي والاعلامي
سوزان ساراندون الفن الملتزم كجسر للتضامن مع فلسطين
03 Sep 2025