من يحاكم مقاومة الاحتلال؟ تفكيك خطاب 'الانتحار السياسي' بعد 7 أكتوبر
27 May 2025

في عالم السياسة، لا تكفي قراءة الأحداث على سطحها، بل لا بد من الخوض في أعماق الواقع، تحليل مكوناته السياسية والاجتماعية، كشف الممارسات التي تسعى إلى تحريف الحقائق لتلبية مصالح أو توجهات غريبة عن إرثنا النضالي المقال الذي سنتناوله هنا، والذي يقرأ تجربة المقاومة الفلسطينية عبر حدث 7 أكتوبر 2023، يُعد نموذجًا صارخًا لخطاب محمل بالأحكام المسبقة، أحادي البعد، وتغافل متعمد لسياق الاحتلال وتاريخ النضال الفلسطيني.

نهدف في هذه الورقة إلى تقديم نقد سياسي، فكري وأكاديمي عميق لهذه الرؤية، التي تتجاوز حدود التحليل الموضوعي إلى نسج سردية مضللة تحاول تحميل "حماس" وحدها مسؤولية التداعيات المأساوية للحرب، متجاهلة العامل المركزي الاحتلالي، متجاهلة حقيقة المقاومة التي هي حق مشروع لشعب تحت احتلال وظلم.

ومن الأهمية بمكان أن لا يُعد النقاش حول المقاومة الفلسطينية وحركة حماس موضوعًا عاديًا، بل هو مسألة حياة أو موت بالنسبة لملايين الفلسطينيين الذين يعيشون تحت ظروف احتلالية استثنائية تفرض عليهم خيارات سياسية وأمنية قسرية. لذا فإن تحليل أي خطاب أو مقالة تتناول هذا الموضوع يجب أن يكون مبنيًا على وعي عميق بالسياق التاريخي والسياسي والاجتماعي، وبمسؤولية أكاديمية تجاه الحقيقة والعدالة.

هذا المقال الذي نقدمه هنا يسعى لتفكيك الخطاب الأحادي الذي يعيد إنتاج سرديات الاحتلال ويرسم مقاومة الشعب الفلسطيني في إطار الانتحار السياسي، ويُحمل المقاومة وحدها تبعات مأساة شعب بأكمله، متجاهلاً عوامل الاحتلال التي لا تقل فظاعة.

خطاب الانتحار السياسي قراءة في التزييف والدلالات المغلوطة

يبدأ المقال الموجه لحركة حماس بنظرية تفيد بأن العملية التي نفذتها في 7 أكتوبر كانت عملاً «انتحارياً» على حد تعبيره، ويكرّر هذا المفهوم مرارًا، متجاهلاً أن المقاومة الفلسطينية في ظل الاحتلال هي ممارسة حق في الدفاع المشروع وفق القانون الدولي، وليست فعل انتحار، بل استثمار في خيار استراتيجي معقد لا يمكن اختزاله في تهمة الانتحار السياسي.

يخفي هذا الخطاب عمداً العوامل الجوهرية التي تحكم سياق الصراع، كالإغلاق المستمر للقطاع، الحصار الاقتصادي، الحروب المتكررة، والاحتلال العسكري، وهذا ما يُشكل الضغوط السياسية والإنسانية التي تدفع المقاومة إلى خياراتها.

القتل الجماعي والإبادة كخلفية لا يمكن تجاهلها

الخطاب الذي يتحدث عن «انتحار» حركة حماس، يتجاهل أن الشعب الفلسطيني في غزة يعاني من حصار شامل أدى إلى كوارث إنسانية، ويموت يوميًا من جراء الاحتلال والعدوان الإسرائيلي، وأن مقاومة هذا الظلم لا يمكن أن تُفهم خارج هذا السياق.

بالتالي، وصف المقاومة بالانتحار سياسي هو محاولة لتبرير الاستمرار في إبادة الشعب الفلسطيني ودماره، وخلق منطق لا يخرج عن تسليم الاحتلال بقضية وجودية يفرضها بالقوة على الشعب الفلسطيني.

التزييف في استدعاء «الثقة بالنفس» و«فشل حماس»

المقال يعتمد على استدعاءات نفسية تقول إن «الناجح أكثر ثقة»، و«حماس فشلت»، ويرسم صورة قاتمة لطبيعة الحركة، وهذا يفتقد لأي رصد واقعي لطبيعة الصراع، حيث لا توجد لعبة ثقة متبادلة بين قوة احتلال وكتلة مقاومة، بل حالة حرب مفتوحة وأزمة وجودية.

هذه القراءة النفسية المجردة لا تنسجم مع واقع معقد تحكمه مصالح إقليمية ودولية، وتحركات سياسية متعددة الأطراف، وبالتالي فهي قراءة سطحية لا تعكس عمق الواقع.

نقد منظومة سرد المسؤولية الأحادية

المقال يحمّل حماس وحدها تبعات نتائج الحرب، متجاهلاً دور الاحتلال الإسرائيلي في إشعال الصراع وفرض الحصار والحروب السابقة، متجاهلاً دور الأطراف الإقليمية والدولية التي تحرك المشهد، وهذا تعبير عن منظور أحادي يحاول تقزيم المقاومة إلى طرف متهور، بينما يُرسم الاحتلال كفاعل عقلاني يمتلك خيارات للسلام.

في الواقع، الاحتلال هو الجهة التي تمارس القتل والاحتلال، والتي تُشرد سكان غزة، ولا يجوز تحميل المقاومة مسؤولية نتائج دفاعها المشروع.

وهم الخيارات الثنائية: التفكيك والتحليل

يرسم المقال مشهداً اختزاليًا يحصر الخيارات أمام حركة حماس وشعب غزة بين خيارين: إما «التضحية بحماس» أو «التضحية بالشعب ومستقبله». هذا التقسيم الثنائي هو وهم سياسي يهدف إلى إضعاف قدرة المقاومة على المناورة السياسية، وإجبارها على الاستسلام لمشاريع خارجية تُبقي الفلسطينيين في حلقة الاستعباد والاحتلال.

في الواقع، السياسة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ليست محصورة في هذه الثنائية القاتمة، بل هي فضاء متشابك من التحالفات، الضغوط، والمناورات التي ينبغي فهمها ضمن سياقها التاريخي والدولي. المقاومة الفلسطينية تمتلك خيارات أكثر تعقيدًا، منها بناء تحالفات إقليمية ودولية، الاستفادة من الضغط الدولي على الاحتلال، واستثمار وسائل النضال السلمية والسياسية إلى جانب المقاومة المسلحة.

قراءة نقدية لافتراض «عدم جدوى وقف الحرب»

المقال يرفض مبدأ التهدئة أو وقف الحرب، مستندًا إلى فكرة أن إسرائيل لن توقفها إلا بالقضاء الكامل على حماس، ويربط ذلك بموقف رئيس الوزراء نتنياهو. لكن هذا التحليل يتجاهل تعقيدات السياسة الإسرائيلية الداخلية، وتناقضاتها، وأثر الضغوط الدولية، خاصة الأمريكية والأوروبية، التي تحاول بين الفينة والأخرى دعم خيار حل سياسي أو هدنة لتخفيف التصعيد.

بالمقابل، استمرار الحرب يعني مزيدًا من الدم الفلسطيني، وحالة من الانقسام والتشرذم، وهي كارثة إنسانية تؤثر في المجتمعات الفلسطينية على المدى الطويل. لذا، خيار وقف الحرب لا ينبغي رفضه برفض قطعي، بل ينبغي أن يكون ضمن استراتيجية تفاوضية متدرجة، تستهدف حماية المدنيين، والحفاظ على الحد الأدنى من الحقوق.

المآلات بين الانتصار أو الاستسلام؟

يبدو أن المقال يصور حركة حماس وكأنها تقف أمام خيارين كارثيين فقط، بينما الواقع يفرض ضرورة التفكير خارج الصندوق السياسي التقليدي. فالشعب الفلسطيني قادر على إعادة إنتاج خياراته السياسية، وإعادة ترتيب أولوياته في مواجهة الاحتلال، وهذا يتطلب تحالفات داخلية وخارجية، وإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني بطرق تضمن استدامة المقاومة والحقوق.

دور المقاومة في صياغة السياسة الفلسطينية

الحركة كجزء من الشعب الفلسطيني ليست وحدها من تحدد مصير القضية، لكنها تمثل صوتًا قويًا في الدفاع عن حقوق الفلسطينيين، ولا يمكن إسقاط مسؤوليات الاحتلال عليها فقط، أو تصويرها كطرف فاقد للشرعية السياسية.

التحدي الأكبر هو تطوير خطاب مقاوم يجمع بين القوة العسكرية والسياسية، وبين الحراك الشعبي والدبلوماسية، مع استثمار الدعم الدولي لفرض وقف دائم لإطلاق النار وفتح صفحة جديدة في الصراع.

 بناء استراتيجية مقاومة واعية ومتجددة

من خلال النقد المتعمق للمقال السابق، تتضح الحاجة إلى تطوير خطاب مقاوم جديد يتجاوز منطق الانتحار السياسي أو الاستسلام لسياسات الاحتلال القسرية. هذه الاستراتيجية يجب أن تشمل:

1.   التكامل بين المقاومة المسلحة والسياسية: إن المقاومة لا تقتصر على العمل العسكري وحده، بل تتطلب بناء قاعدة سياسية قوية تضمن مشاركة كل الفصائل، والمجتمع المدني، والدبلوماسية الدولية، لتشكيل جبهة متماسكة تدافع عن الحقوق الفلسطينية.

2.   التواصل مع المجتمع الدولي والضغط الدبلوماسي: على المقاومة استثمار قنوات الدعم العالمي للضغط على الاحتلال وفضح جرائمه، وبناء شبكة تحالفات إقليمية وعالمية تدعم حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.

3.   إعادة تقييم الخيارات الاستراتيجية: لا بد من استثمار التجارب السابقة والتعلم من الأخطاء لتطوير آليات تفاوضية وحوار داخلي فلسطيني يخدم وحدة الصف الوطني ويضمن مرونة الحركة في التعاطي مع المتغيرات السياسية.

4.   الحفاظ على الشعب وحمايته أولوية قصوى: المقاومة يجب أن تعمل على تقليل الأضرار المدنية، والبحث عن حلول تحفظ كرامة وحقوق الشعب الفلسطيني، لأن استمرار التدمير لن يؤدي إلا إلى المزيد من المعاناة والخسائر.

فك تزييف السردية وتعزيز مشروع المقاومة

ختاماً يأتي هذا النقد ليكشف زيف الخطاب الذي يحمّل حركة حماس مسؤولية مأساة شعب بأكمله، ويعيد إنتاج سرديات الاحتلال التي تهدف إلى تصفية الحقوق الوطنية الفلسطينية عبر تجريد المقاومة من مشروعيتها.

نحن بحاجة إلى قراءة موضوعية، ثورية وعميقة تجمع بين الفهم التاريخي، والوعي السياسي، والحس الوطني، لإعادة صياغة المشهد الفلسطيني بما يضمن استمرار المقاومة في مواجهة الاحتلال، مع الحفاظ على أرواح الشعب الفلسطيني وكرامته.

إن المقاومة ليست انتحارًا ولا طغيانًا، بل حق مشروع وأداة لإنهاء الاحتلال واستعادة الحقوق، وهذا ما يجب أن يكون محور الخطاب السياسي والفكري في المنطقة والعالم.






المواضيع ذات الصلة
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
مفهوم المقاومة الفلسطينية وطوفانها
07 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
طوفان الأقصى عامان من الوعي المقاوم إلى ميلاد مرحلة جديدة للحقوق الفلسطينية
07 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
الخديعة الكبرى: كيف شرعنّت واشنطن ضم الضفة وخطّت تهجير فلسطين — ترامب مهندس المصيدة
02 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
المبادرة الأمريكية: غطاء للانتصار الرمزي للاحتلال أم اختبار للقوة الفلسطينية؟
02 Oct 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
‎استراتيجية الاحتلال الثابتة ضد الاعترافات بالدولة الفلسطينية
22 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
المطلوب من قادة العرب في قمة الدوحة
13 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
خدعة “المجانية” وواجب الانتصار الفلسطيني
12 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
ماذا ينتظر الخليج بعد الفخاخ الأربعة؟
12 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
الاغتيالات الإسرائيلية قوة متوهَّمة أم إقرار بالضعف البنيوي؟
10 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
من الأونروا إلى إمارة الخليل: استراتيجيات تفكيكالمرجعية الفلسطينية واستشراف مآلاتهام
07 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
مصر مركز الحسم في الصراع الإقليمي
07 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
تركيا بين التدخل الإقليمي ومسؤولياتها التاريخية تجاه فلسطين
05 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الأمني والعسكري| المقال الثقافي والاعلامي
منظمة شنغهاي والتداعيات المحتملة على واقع الحرب في غزة
02 Sep 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
اللاءات الأمريكية وثروة غزة، الجيوسياسة والبديل الطاقوي
30 Aug 2025
director
المقال الاجتماعي النفسي| المقال السياسي| المقال الثقافي والاعلامي
غزة وتآكل القوة الناعمة الأمريكية عالمياً
28 Aug 2025