لم تعد السياسات "الإسرائيلية"، خصوصاً في عهد حكومة اليمين المتطرف بقيادة (بنيامين نتنياهو)، تثير القلق في الشرق الأوسط فقط، بل باتت تتصدر قائمة الاستياء العالمي، حيث يكشف تقرير حديث لمركز (pew research)أنّ غالبية سكان 24 دولة، من مختلف القارات، يحملون آراءً سلبية تجاه كيان الاحتلال الإسرائيلي، ويظهر التقريرانعداماً للثقة في قيادة نتنياهو. في هذا السياق، يُطرح السؤال التالي: هل العالم بصدد تحوّل جذري في مواقفه من السياسات "الإسرائيلية"؟ وهل يمكن أن يترتب على هذا الانحدار الدبلوماسي تبعات سياسية أو اقتصادية أو حتى عسكرية؟
نظرة عامة على نتائج التقرير
وفقاً لبيانات الاستطلاع، فقد عبرت غالبية سكان 20 من أصل 24 دولة عن آراء سلبية تجاه كيان الاحتلال "الإسرائيلي"، وارتفعت نسب السخط إلى مستويات غير مسبوقة في دول أوروبية وآسيوية مؤثرة مثل (أستراليا، هولندا، السويد، اليابان، وتركيا)، كما أبدت فئات عمرية شابة، بالإضافة إلى التيارات اليسارية والليبرالية، مواقف أكثر حدة تجاه كيان الاحتلال مقارنة بكبار السن والمحافظين.
الأهم من ذلك، أن رئيس وزراء الكيان (بنيامين نتنياهو)لم ينجُ من هذا الرفض الشعبي الدولي، حيث عبّر أغلب المشاركين عن قلة أو انعدام الثقة في أدائه على الصعيد الدولي، وتُظهر هذه النتائج أن انتقادات العالم لم تعد تقتصر على السياسات العامة والخارجية لكيان الاحتلال، بل باتت موجهة إلى رأس هرمها السياسي.
الخلفيات السياسية وراء الانحدار في صورة "إسرائيل"
1. العدوان على قطاع غزة (2023–2024)
أدى العدوان على قطاع غزة والذي وُصف بأنه الأعنف منذ عام 2014، إلى مقتل آلاف المدنيين، بمن فيهم الأطفال والنساء، في ظل مشاهد بثّها الإعلام العالمي مباشرة، دفعت هذه الصور الشعوب الغربية إلى إعادة تقييم علاقتها بكيان الاحتلال، بعيداً عن مواقف حكوماتها الرسمية، وقد أصبح من الصعب تبرير استخدام القصف العشوائي والمفرط تحت ذريعة "محاربة الإرهاب".
2. تسارع الاستيطان في الضفة الغربية
واصلت حكومة الكيان بناء المستوطنات غير القانونية في الضفة الغربية، متحدّية القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، وقد أصبحت هذه القضية نقطة ارتكاز في الحملات الانتخابية اليمينية، ما يعكس إصرار الحكومة على فرض وقائع ديموغرافية وجغرافية لا رجعة عنها، ما زاد من تعقيد إمكانية حل الدولتين، حيث تتبنى معظم دول العالم هذه الصيغة -حل الدولتين- كخيار لوضع حلول سلمية للقضية الفلسطينية.
3. التشدد الديني والتطرف السياسي
يشهد المجتمع "الإسرائيلي" تصاعداً غير مسبوق للقوى الدينية القومية، التي تضغط باتجاه فرض أجندة دينية على الحياة السياسية، وقد ساهم وجود شخصيات متطرفة داخل الائتلاف الحكومي في إثارة الرأي العام العالمي، خاصة مع إصدار قوانين تمسّ بمكانة المسجد الأقصى والحقوق المدنية للفلسطينيين داخل الخط الأخضر.
انقسام داخل المجتمع الإسرائيلي
من الملفت للنظر في نتائج التقرير أن 58% من "الإسرائيليين" أنفسهم يرون أن كيانهم "غير محترم دولياً"، مع تزايد هذا الشعور بشكل كبير مقارنة بالعام السابق-وفق التقرير-، إذ يعبّر هذا الشعور الداخلي عن أزمة ثقة عميقة داخلية في توجهات القيادة السياسية للكيان، وربما يعكس شعوراً متنامياً بالعزلة الدولية.
كما أن الانقسام لا يقتصر على الهوية الدينية (يهود مقابل عرب)، بل يتقاطع مع خطوط أيديولوجية حادة بين اليمين واليسار؛ ففي حين يرى اليمينيون أن "إسرائيل" لا تزال تحظى بدعم كافٍ، يرى اليساريون أن العالم بدأ ينفض يده من مشروع صهيوني أضحى غير قابل للدفاع عنه أخلاقياً أو قانونياً.
البُعد الجيوسياسي لتحول المواقف العالمية
1. التحولات في الرأي العام الغربي
بات واضحاً أن الرأي العام في الدول الغربية لم يعد يُدار فقط من قِبل النخب السياسية والإعلامية، بل أصبح أكثر استقلالية وتحرراً، فلقد استطاعت وسائل التواصل الاجتماعي، والضغط الشعبي، والتحقيقات الحقوقية أن تخلق بيئة وعي عالمي جديدة لا تتسامح مع الانتهاكات الممنهجة؛ ولعل أبرز مثال على ذلك هو الولايات المتحدة، حيث ارتفعت نسبة الأميركيين الذين ينظرون سلباً إلى "إسرائيل"من 42% عام 2022 إلى 53% في عام 2025، وهي قفزة نوعية لم تشهدها أي مرحلة سابقة.
2. مستقبل التحالفات الدبلوماسية
رغم استمرار الدعم العسكري والسياسي من بعض الحكومات الغربية لكيان الاحتلال، إلا أن تآكل الصورة العامة قد يُضعف من شرعية هذه التحالفات على المدى البعيد، وإذا استمر الكيان في تجاهل الرأي العام العالمي، فقد يجد نفسه أمام عزلة دبلوماسية تدريجية شبيهة بتجربة جنوب أفريقيا إبان نظام الفصل العنصري.
أثر التغيرات على الداخل الفلسطيني
من شأن هذه التحولات في المزاج العالمي أن تفتح نافذة جديدة أمام التحركات الفلسطينية الدبلوماسية والشعبية؛فمع تراجع ثقة العالم "بإسرائيل"، تصبح السردية الفلسطينية أكثر قبولاً وانتشاراً، وهو ما قد يخلق فرصاًلتعزيز الضغط على الاحتلال في المحافل الدولية.
كما أن تعاطف الرأي العام العالمي مع الفلسطينيين قد يترجم إلى دعم متزايد لحملات المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)، ما يزيد من كلفة الاحتلال سياسياً واقتصادياً.
مخاوف إسرائيل المستقبلية
يدرك صنّاع القرار في تل أبيب أن تراجع مكانة كيان الاحتلال في الرأي العام العالمي قد يُستثمر ضدها في ملفات شائكة مثل المحكمة الجنائية الدولية، وتعليق اتفاقيات تجارية أو عسكرية، وعرقلة تطبيع العلاقات مع دول أخرى.
كما أن عزلة نتنياهو الشخصية في المجتمع الدولي، خاصة بين حلفاء تقليديين، قد تعيق قدرته على المناورة في ملفات مثل الملف النووي الإيراني أو التوسع في العلاقات "اتفاقيات إبراهام".
إلى أين تتجه إسرائيل؟
تكشف بيانات تقرير (pew research) أن العالم يمر بمنعطف حرج في علاقته "بإسرائيل"، لم يعد فيه بالإمكان تبرير الاحتلال، أو التسامح مع الاستيطان، أو تجاهل الجرائم ضد المدنيين، حيث تآكل الرأي العام الدولي تجاه "إسرائيل" ليس مجرد ظاهرة إعلامية مؤقتة، بل هو تعبير عن وعي عالمي يتشكل من جديد، ويفرض على "إسرائيل"إما إعادة النظر في سياساتها أو مواجهة موجة عزلة متصاعدة.
في هذا السياق، يصبح مستقبل "إسرائيل" الدولي مرتبطًا بقدرتها على الخروج من عباءة التوسع العسكري والديني.














