حَفَلَّ مفهوم الوحدة الوطنية الفلسطينية، باهتمام وتناول وتعميم، في الساحة الفلسطينية، كما لم يحفل به أي مفهوم سياسي واجتماعي آخر، في ذات الوقت الذي لم يتعرض أي مفهوم آخر إلى ابتذال وتجاوز عليه وتفريغ له من مضمونه ومحتواه، كما هذا المفهوم، والذي يدعوني للتأكيد ومنذ البدء، بأن الوحدة الوطنية هي ليست خيارًا بين خيارات، بل هي ممرًا اجباريًا، كطريق للمواجهة والصمود والتحرر وبناء المستقبل، بل إن الانتصار الكامل والشامل على العدو الصهيوني - الإمبريالي، ليس مرهونًا بالوحدة الوطنية الفلسطينية وحدها، بل بوحدة الأمة العربية جمعاء؛ الأولى قاطرتها، كما أعتقد. أما في الموضوع المحدد، أي الوحدة الوطنية، فإنني أنطلق من الواقع المُعقد والمتنوع والمتحرك، الذي يحياه الشعب الفلسطيني وتوزعه على تجمعات جغرافية متعددة، داخل وخارج الوطن المحتل؛ يؤدي موضوعيًا - التوزع الجغرافي - إلى تشابك النضال الوطني التحرري مع النضال الاجتماعي الديمقراطي، والذي في ضوئه، فإن كل واقع وأي مشروع سياسي/اجتماعي، سيكون محكومًا بخصوصيته ومحدداته، لكنه في مجمله يصب في إزكاء ديناميات الصراع والذي يبقى فيه التناقض الرئيسي باستمرار ضد الاحتلال وأهدافه ومشاريعه ومخططاته وسياساته وآلياته، ويأخذ النضال الوطني الفلسطيني شكلًا ومضمونًا، صورة الصراع الاجتماعي/السياسي التاريخي كجزء عضوي من صراع عربي - صهيوني - إمبريالي أشمل.
إن مراعاة الحال/الوضع الفلسطيني، وتوزعه الجغرافي، الذي يتخذ مفهوم الوحدة الوطنية فيه، حالة غريزية دفاعية عن الوجود - الذات، وأبعد في مضمونه وجوهره من وحدة فصائله وقواه فقط، بل ما يترتب على هذه الوحدة من مضامين ومرتكزات وطنية واجتماعية ووجدانية - نفسية شاملة، بكون النجاح في مواجهة الاحتلال/العدو؛ مشروط بتوحيد مجمل طاقات شعبنا وحشدها والاستثمار بها.. كمعادل للقوة، والتي يجب أن تجد ترجمتها بالطبع في إطار سياسي وتنظيمي ثابت نسبيًا؛ لتوحيد فعل القوى السياسية الفلسطينية أو أغلبها في كل مرحلة على أساس برنامج مشترك محدد أو لمواجهة أخطار محددة، وبالتالي فهي إطار متحرك صحيح، وهي مُلزمة وقائمة بقدر ما تبقى القوى المشاركة فيها ملتزمة بالبرنامج المحدد، لكن عندما تخرج قوة عليها جميعًا وعلى برنامجها، حتى ذلك الذي سمي ببرنامج الإجماع الوطني أو الحل المرحلي الَّذين بُنيَا على "برنامج النقاط العشر"، والذي بدوره اشترط "إقامة سلطة الشعب المقاتلة فوق أي أرض يجري تحريرها بالقوة..."، والذي بقيت تنحدر به القيادة المهيمنة، وصولًا لتوسلها المفاوضات أسلوبًا وحيدًا لما تدعيه، من تحصيل للحقوق، ومن ثم؛ تصبح قوة معيقة للتحرر الوطني، وأداة أمنيّة بامتياز؛ يجب أن نطرح سؤال عن أي وحدة سياسية نتحدث، والذي بدوره ينقلنا إلى مضمون الوحدة الوطنية التي هي أشمل وأوسع من الوحدة السياسية في ذاتها.
هنا يغدو شرط أي وحدة سياسية فعلية وبالتالي وحدة وطنية حقيقية، هو مواجهة ولجم سياسات التنازل والاستسلام لشروط العدو - من أي جهة كانت سابقة أو لاحقة - ليس هذا فحسب، بل المواجهة وبكل حزم لأية طروحات تحاول أن تصور بأن خيار الاستسلام للعدو هو خيار الشعب الفلسطيني، لأن الحقيقة التي لا يجب أن يخفيها أحد، بأن ما جرى هو الانسحاب الكامل للقيادة المهيمنة فلسطينيًا، من ساحة الفعل الوطني الناجم عن تخليها الواضح والصريح، عن الحقوق الوطنية الفلسطينية حتى بحدودها الدنيا - كما يقول بها البعض - حتى تلك المقررة في المجلسين الوطني والمركزي، إلى كل التوافقات التي جرت في جلسات الحوارات قبل وبعد الانقسام في السلطة وعليها، وصولًا لتوهم البعض بأنه يمكن التوافق على رؤى وسياسات تكتيكية أو شعاراتية معها، يمكن أن يجري التوافق حولها أو العمل بها (وواقع التجربة تاريخيًا، منذ ١٩٦٨ إلى حاضرنا القائم، يزكي ذلك).
بمعنى مطلوب لأي وحدة سياسية ووطنية حقيقية، تحديد من بقي في الخندق الوطني ومن خرج منه؛ ارتباطًا بمدى قربه أو بعده من الالتزام بالحقوق الوطنية التاريخية، "وتلك الدنيا لمن يقول بها" - التي سقط معظمها، في مجمل ما سمي باتفاقات المصالحة، تحت الاشتراط السياسي، بقبول الالتزامات والاتفاقات الموقعة مع العدو؛ أي محاولات وضع الجميع تحت سقف سياسي واحد، يخدم توجه القيادة/القوة المهيمنة؛ ففي ضوء قراءة تستند إلى دقة المعطيات والركائز الفكرية المنهجية التي تقوم عليها الرؤية السياسية للصراع مع العدو، الذي هو ذو طبيعة تاريخية ووجودية، وهذا لا تزكيه القراءة لواقعنا الخاص لتحديد رؤيتنا/موقعنا، بل إن كل استراتيجيات وسياسات العدو ذاته، تؤكد على ذلك، وعليه؛ ووفق تجارب عديدة ماثلة أمامنا، من فرنسا إلى الجزائر وفيتنام وكوبا مرورًا بأفغانستان وصولًا إلى لبنان والعراق وغيرهم الكثير... كانت هناك شريحة اجتماعية ضيقة، ترى بأن تحقيق مصالحها الاقتصادية والسياسية، يتأتى من خلال الارتباط بالمخططات الاستعمارية والإمبريالية والصهيونية، مما يستدعي حسب مصالح تلك الشريحة؛ ضرورة إنهاء حالة الصراع ضد الاحتلال والهيمنة والتعايش معه/ا، وتخلق بالطبع مبرراتها التي تقود إلى ذلك، وهذا بدوره ما يفرض ضرورة الذهاب إلى صيغ تحالفات جديدة (جبهة عريضة - جبهة مقاومة موحدة - ائتلاف وطني)، ترتكز إلى بعدها الشعبي - الكفاحي في خوض معركتها الداخلية، إذا كان هدفها استعادة المنظمة، كمسألة محورية في توحيد الحالة الفلسطينية، على أساس برنامجها الأساسي وميثاقها الوطني وخطها الكفاحي؛ لانتزاع حقوق الشعب الفلسطيني كافة.
طبعًا؛ مجابهة مثل تلك، لن تحسم بين ليلة وضحاها، كما لن تحسم برفع الشعار والاعتراض والتمني والمطالبة، كما يجري الحال، منذ ١٩٦٩ على الأقل، بل تحتاج إلى جهد ودأب وتحشيد وطني وجماهيري شامل وخوض نضال وطني وديمقراطي مستمر، لأنها مواجهة بين شرعية الشعب وكفاحه الوطني، ولا شرعية العدو ومشاريعه التصفوية، باسم السلام والتسوية السياسية من جانب، والإبادة الجماعية والتطهير العرقي من جانب آخر.














